ومعلوم أن افتقاره إلى الجميع هو افتقاره إلى نفسه، وهو معنى قوله هو واجب بنفسه، فعلم أن وجوبه بنفسه لا يوجب الافتقار المنافي لوجوب الوجود.
الوجه الثاني: أن يقال: وجوب الوجود الذي دل عليه الدليل ينفي أن يفتقر إلى أن يكون مفتقرا إلى شيء خارج عن نفسه، إذ لو كانت الممكنات لا بد لها من وجود غير ممكن موجود بنفسه، وهذا ينفي أن يفتقر إلى شيء خارج عن نفسه فلو قيل إنه موجود بنفسه مستغن عن غيره وأنه مفتقر إلى غيره للزم الجمع بين النقيضين فأما ما هو داخل في مسمى نفسه فليس هو شيئا خارجا عن نفسه حتى يقال: افتقاره إليه ينافي وجوده بنفسه.
الوجه الثالث: أن يقال: اسم الغير فيه اصطلاحان: أحدهما أن أحد الغيرين ما جاز العلم بأحدهما مع علم العلم بالآخر، والآخر أن الغيرين ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بوجود أو إمكان أو زمان، والأول اصطلاح المعتزلة والكرامية، والثاني اصطلاح الكلابية والأشعرية، فإن قيل بالثاني فجزؤه وصفته ليس بغير له فلا يكون ثبوته موجبا لافتقاره إلى غيره، وإن قيل بالأول فثبوت الغير ليس بهذا التغير لا بد منه فإنه يمكن العلم بوجوده، والعلم بوجوبه والعلم بأنه خالق والعلم بعلمه، والعلم بإرادته، وهم يعبرون عن ذلك بالعقل والعناية، وهذه المعاني أغيار على هذا الاصطلاح وثبوتها لازم لواجب الوجود، وإذا كان ثبوت هذه الأغيار لازما له لم يجز القول بنفيها لأن نفيها يستلزم نفي واجب الوجود وعلم أن مثل هذا وإن سمي تركيبا فليس منافيا لوجوب الوجود.
فإن قيل: واجب الوجود لا يفتقر إلى غيره، قيل: لا يفتقر إلى غيره يجوز مفارقته له أم لازم لوجوده؟ فالأول حق، وأما الثاني فممنوع، ونبين ذلك بالوجه الرابع:، وهو أن يقال استعمال لفظ الافتقار في مثل هذا ليس هو المعروف في اللغة والعقل فإن هذا إنما هو تلازم بمعنى أنه لا يوجد المركب إلا بوجود جزء أو لا يوجد أحد الجزءين إلا بوجود الآخر أو لا يوجد الجزء إلا بوجود الكل، أو لا توجد الصفة إلى بوجود الموصوف، أو لا يوجد الموصوف إلا بوجود الصفة.
ومعلوم أن الشيئين المتلازمين في الوجود لا يجب أن يكون أحدهما مفتقرا إلى الآخر بل إن كان ممكنين جاز أن يكون معلولي علة واحدة أوجبتهما من غير أن يفتقر أحدهما إلى الآخر، وأما الأمور المتلازمة كالأبوة والبنوة لا يجب أن يكون أحدهما مفتقرا إلى الآخر فإن افتقار الشيء إلى غيره إنما يكون إذا كان ذاك