للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَوْنُ هَذَا الْمَشْرُوعِ لِعُذْرٍ "مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ" يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الرُّخَصَ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ ابْتِدَاءً؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ كُلِّيَّاتٍ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ عَرَضَ لَهَا ذَلِكَ؛ فَبِالْعَرَضِ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا أَجَزْنَا لَهُ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ؛ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، هَذَا وَإِنْ كَانَتْ آيَاتُ الصَّوْمِ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ثانٍ عَنِ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٧٣] .

وَكَوْنُهُ "مُقْتَصِرًا بِهِ عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ" خَاصَّةً مِنْ خَوَاصِّ الرُّخَصِ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ١، وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ مَا شُرع مِنَ الْحَاجِيَّاتِ الْكُلِّيَّةِ وَمَا شُرِعَ مِنَ الرُّخَصِ؛ فَإِنَّ شَرْعِيَّةَ الرُّخَصِ جُزْئِيَّةٌ يُقتصر فِيهَا عَلَى مَوْضِعِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا انْقَطَعَ سَفَرُهُ؛ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَصْلِ مِنْ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَإِلْزَامِ الصَّوْمِ، وَالْمَرِيضُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يصلِّ قَاعِدًا، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لَمْ يَتَيَمَّمْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الرُّخَصِ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ يُشْبِهُ الرُّخْصَةَ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُخْصَةٍ فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ أَيْضًا وَإِنْ زَالَ الْعُذْرُ، فَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْتَرِضَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الِاقْتِرَاضِ، وَأَنْ يُسَاقِيَ حَائِطَهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقَارِضَ بِمَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التِّجَارَةِ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالِاسْتِئْجَارِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ ابْتِدَائِيٍّ، وَالرُّخْصَةُ راجعة


١ يلوح أنه حكم مفرع على الرخصة لازم لها، ولا يتوقف تعريفها عليه؛ لأنه تم بالقيود قبله، بدليل أنه أخرج به القرض وما معه وهو نفس ما أخرجه بقيد المشقة؛ فإن كان مراده أنه لا بد منه في التعريف؛ فغير ظاهر، وإن كان مراده أنه وصف ملازم وحكم ثابت للرخصة؛ فظاهر، وهو مفهوم من تعريفها بما شرع لعذر شاق؛ لأن موضع الحاجة هو العذر الشاق؛ فعند زوال هذا العذر لا يوجد محل الرخصة؛ فلا يتأتى الترخص حينئذ. "د".

<<  <  ج: ص:  >  >>