للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي «المسند» عن أبي مويهبة، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خرج ليلة إلى البقيع، فاستغفر لأهل البقيع، وقال: «ليهنكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح فيه النّاس، أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم، يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شرّ من الأولى». ثمّ قال: «يا أبا مويهبة، إنّي قد أعطيت خزائن الدّنيا والخلد ثم الجنّة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربّي، فاخترت لقاء ربّي والجنّة»، ثمّ انصرف. فابتدأ وجعه الذي قبضه الله فيه (١).

لمّا قويت معرفة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بربّه، ازداد حبّه له وشوقه إلى لقائه، فلمّا خير بين البقاء في الدّنيا وبين لقاء ربّه، اختار لقاءه على خزائن الدّنيا والبقاء فيها.

سئل الشّبليّ: هل يقنع المحبّ بشيء من حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشد:

والله لو أنّك توّجتني … بتاج كسرى ملك المشرق

ولو بأموال الورى جدت لي … أموال من باد ومن قد بقي

وقلت لي لا نلتقي ساعة … اخترت يا مولاي أن نلتقي

لمّا عرّض الرسول صلّى الله عليه وسلّم على المنبر باختياره اللّقاء على البقاء ولم يصرّح، خفي المعنى على كثير ممّن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ} [التّوبة: الآية ٤٠]. وكان أعلم الأمّة بمقاصد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جزعه، وأخذ في مدحه والثّناء عليه على المنبر، ليعلم النّاس كلّهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: «إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر» (٢).


(١) أخرجه: أحمد (٤٨٩، ٣/ ٤٨٨)، والطبراني (٢٢/ ٣٤٦) (٨٧٢)، وإسناده ضعيف.
(٢) أخرجه: البخاري (٧٣، ٥/ ٤) (٣٩٠٤، ٣٦٥٤، ٤٦٦)، ومسلم (٧/ ١٠٨) (٢٣٨٢).

<<  <   >  >>