للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كنّا نعرفه ونألفه ونشاهده ونتصرّف فيه، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا وحصل من الحكيم التّوقيت على ما بيّنا ظهر كثير من عاداتهم فيه وأنهم تخيّروا ما كان في الاستعمال أبين وفي العرف أمتن، وعلى المراد أدل، وفي التّمثيل أنبّه وأجل.

واعلم أنّ الحادث متى حصل فقد حصل في وقت، والمراد أنه يصحّ أن يقال فيه: إنه سابق لما تأخر عنه، وإنّ وقته قبل وقته، أو متأخر عما تقدّمه وإنّ وقته بعد وقته أو مصاحب لما حدث معه، وإنّ وقته هذا هو المراد فقط، ولسنا نريد أنه حدث معه شيء سمّي زمانا له، أو سبقه أو احتاج في الوجود إليه، فلو تصورنا أوّل الحوادث وقد اخترعه الله مقدّما على المحدثات كلّها لصلح أن يقال فيه: إنه سابق لها وإنه أول لها، وهذا توقيت، ولو تصوّرنا أنه بقي مفردا بعد حدوثه لم يتبع بغيره لكان يصح تقدير هذا القول فيه وتوهّمه، إذ كان الله تعالى قادرا على الإتيان بأمثاله وأغياره معه وقبله وبعده.

وهذا معنى قول النّحوي: الفعل ينقسم بانقسام الزّمان ماض ومستقبل وحاضر، وإذا كان الأمر على هذا فقد سقط مؤنة القول في أنّ الوقت حادث لا في وقت، وأنه لو احتاج الوقت إلى وقت لأدّى إلى إثبات حوادث لا نهاية لها. وأما من قال: إنّ الزّمان تقدير الحوادث بعضها ببعض وتمثيله بأن القائل يقول: غرد الديك وقت طلوع الفجر، وطلع الفجر وقت تغريد الديك فإنّ كل واحد من التّغريد صار وقتا للآخر، فإنّه جاء إلى فعلين وقعا في وقت واحد، فعرف الوقت مرة بالإضافة إلى هذا، وجعل ذلك الآخر موقتا به، ومرة بالإضافة إلى ذلك، وجعل هذا مؤقتا به، ولم يتعرّض للزّمان وكشف حده وضبطه وهذا كما يقال: حججت عام حج زيد وحج زيد عام حججت.

ومن الظاهر أن العام غير الحجين وأنهما إنما وقعا فيه، وهذا بيّن على أن ما أتى به واشتغل بتمثيله هو من قبيل ما يكون زمانا وهو ما يصلح أن يكون واقعا في جواب متى ولم يستوفه أيضا، وترك ما يخرج في جواب كم رأسا، وذلك كقولهم: يصوم زيد النّهار ويقوم اللّيل، وما فعلته قط، ولا أفعله أبدا، وأقمت بالبلد شهرا وهجرت زيدا يوما إلى كثير مما ستراه في أبواب هذا الكتاب وفصوله.

واعلم أنّ الزمان وإن كان حقيقة ما ذكرنا، فإنّ الأمم على اختلافها أولعوا في التّوقيت بذي اللّيالي والأيام، والشّهور والأعوام، لما يتعلّق به من وجوه المعاملات والآجال المضروبة في التجارات، ومن تقرير العدات، وإدراك الزّراعات، وآماد العمارات، ومن فعل أهل الوبر في المحاضر والمزالف والمناجع والمجامع، وإقامة الأسواق، وتوجيه المعاش، ومن اشتغال أرباب النّحل بما افترض عليه عندهم من تقرّب وعبادة، ودعوا إلى الأخذ به في دينهم من فرض ونافلة، وأمروا بالتوجه إليه من سمت وقبلة، ولما أجرى الله

<<  <   >  >>