وأما ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» فإن اللّام فيه بمعنى بعد ومثله قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ
[سورة الطلاق، الآية: ١] واللّام لإضافة عدّة مواضع.
وقد ذكرتها أو أكثرها في غير هذا الموضع، وقال بعض أهل النظر: المراد صوموا لما أقبل من رؤيته.
وكذلك طلّقوهنّ لما أقبل من عدّتهن. قال وقبل كلّ شيء وجهه وأوّله، كما أنّ دبره آخره، وكلّما يؤقّت فله أوّل وآخر، فما دام زائدا فهو مقبل، فإذا أخذ في النّقصان فهو مدبر مثل النّهار فهو مقبل من الفجر إلى الاستواء لأنّه في الزّيادة ثم مدبر، لأنّه في النّقصان إلى اللّيل، ولا يقال: هو مقبل وقد أقبل إلّا عند دخول وقته. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل اللّيل وأدبر النّهار فقد أفطر الصائم» . ولا يجوز أن يقال: أقبل اللّيل إلّا بعد مغيب الشّمس، لأنّ الصّائم لا يعود مفطرا إلا به لقوله: فقد أفطر الصّائم. أي انقضى صومه لذهاب وقته ودخول وقت آخر لا يكون الصّوم فيه ويؤيد هذا الّذي ذكرناه قول الرّاجز شعرا:
وقلّة الطّعم إذا الزّاد حضر ... وتركي الحسناء في قبل الطّهر
لأنّ المراد أوّل طهرها لا ما قبله من الحيض، فمراد الشّاعر فيه مثل مراد الأخطل حين قال شعرا:
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النّساء ولو باتت بإطهار
وقد بيّن غيره بأتمّ من هذا الذي قال:
أفبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجو النّساء عواقب الأطهار
وهذا ظاهر ولو جاز أن يكون إقبال شيء في إدبار غيره الذي هو ضدّه لكان الصّائم مفطرا قبل مغيب الشّمس، إذ اللّيل عنده يقبل في إدبار النّهار، وقبل انقضائه كلّه وهذا لا يقوله أحد. وإذا كان الأمر على هذا فأذن الله تعالى في الطّلاق بقوله: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ
[سورة الطلاق، الآية: ١] لا يكون واقعا إلا بعد دخول وقت العدّة التي أذن الله في الطّلاق له، والطّهر وبعد انقضاء إدبار الوقت الذي منع من الطّلاق فيه وانتهائه وهو الحيض، فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته» يعني الهلال والصّوم لا يكون إلا بعده بساعات ووقت مديد، ومن مواضع اللّام قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
[سورة طه، الآية: ١٤] لأنّ المعنى أدم الصّلاة لتسبّحني وتمجّدني، وذلك هو الذّكر إذ كان علة له وسببا، وهذا يخالف: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
[سورة الإسراء، الآية: ٧٨] لأنّ دلوك الشمس بيان وقت، ومثله قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ
[سورة الحشر، الآية: ٢] في أنه بيان وقت، ألا ترى أنّ الحشر لم يكن علة لإخراجهم، بل كان علة إخراجهم كفرهم وإباؤهم الإسلام.