للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كل موهم، ولمثل هذا أجرى قوي في صفة مجرى القادر وامتنع في شديد ومتين وما أشبهه من أن يجري مجراه، فأما قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ

[سورة البقرة، الآية: ١٥] وسَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ

[سورة التوبة، الآية: ٧٩] وما جرى مجراه فمثله في البلاغة يسمى المجانسة والمطابقة وهو ضرب من المجاز سمّي الثّاني فيه بالأول ليعلم أنه جزاؤه وقد أجرى إلى مثله، والمعنى يجازيهم جزاء الاستهزاء والسّخرية ونحو قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها

[سورة الشورى، الآية: ٤٠] والثاني لا يكون سيئة.

فإن قيل: فهل يجري التهاتف والتّهكم مجرى السخرية فتجيزه عليه اتساعا؟ قلت: لا يجوز ذلك؛ لأن المجاز لا يقاس، ألا ترى أنّ أرباب اللغة مجمعون على أنه لا يجوز سل الجبل، وإن جاء سل القرية، ومثل هذا قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

[سورة النور، الآية: ٣٥] وامتناعنا من بعد من أن تقول الله سراج السماوات، أو شمسها أو قمرها إذ كانت المجازاة لها انتهاء تجاوزها إلى ما ورائها محظور، هذا مع توافق الصفات، فكيف إذا اختلفت؟ ويقارب هذا قولهم في الله لطيف ورحيم، والمراد به الإنعام، ثم امتنعوا فيه من رفيق ومشفق لرجوعهما إلى رقة القلب واستيلاء الخوف، فأما الغضب والسخط والإرادة والكراهة والحب والبغض والرضاء والطالب والمدرك والمهلك فمن صفات الفعل، والله يحدثها لا في مكان إذ كان جميعها لا يوجب تصويرا ولا تهيئة ولا تركيبا، وإنما تفيد عقابا للمكلفين أو إثابة أو إيجابا لإيقاع الفعل، أو نفيا له وإذا كانت كذلك انتفت عن المحال على أنه لو أحدثها في المحال لعادت المحال الموصوفة بها.

فإن قيل: فهل يجوز أن تقع منّا إرادة لا في محل؟ قلت: لا وذلك أنّ أفعالنا تقع مباشرة، أو متولدة عن مباشرة، فلا بدّ لها من محل وأفعال الله تعالى بخلافها. فإن قيل:

هل يجوز أن يوصف الله بأنه راع، وأنه خفير، وحارس كما وصف بأنه رقيب وحافظ؟

قلت: قد جاء رعاك الله وحرسك وحاطك في دعاء المسلمين ومعانيها صحيحة، لكن بناء اسم الفاعل منها في صفاته لم يجيء وهم يستغنون بالشيء عن شبهه في اللغة، فيذهب عن الاستعمال ومع ذلك فوصفه يجب أن يكون كريما، ولفظة الحارس والرّاعي والحائط ليس مما يستكرم فيقرن بيا للاختصاص، فيقال يا حارس أو يا راعي، أو يا حائط ومما ينفر منه فيترك قول القائل في الله يا معلم وإن كان قد جاء الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ

[سورة الرحمن، الآية: ١- ٢] لاشتهاره في صفات المحترفين به، على أنّ الفرق بين ما يجعل إخبارا وبين ما يجعل خطابا ويصدر بحرف النّداء ظاهر. وإذا كان كذلك فلفظ الخطاب بيا كالمترجم عن تواضع وفاقة فيجب أن يختار معه من الصّفات ما يؤكّد الحال ويحرّر السؤال ويشبه ما نحن فيه أنّهم قالوا في صفاته علّام الغيوب.

<<  <   >  >>