شيء من غير أن يتجدد من المبدع الأول ما يوجب أن يصير للحوادث المتعاقبة، بل حقيقة قولهم أن الحوادث حدثت بلا محدث، وكذلك عدمت بعد حدوثها من غير سبب يوجب عدمها على أصلهم.
وهؤلاء قابلهم طوائف من أهل الكلام ظنوا أن المؤثر التام يتراخى عنه أثره، وأن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح، والحوادث لها ابتداء وقد حدثت بعد أن لم تكن بدون سبب حادث، ولم يهتد الفريقان للقول الوسط، وهو أن المؤثر التام مستلزم أن يكون أثره عقب تأثيره التام لا مع التأثير ولا متراخياً عنه، كما قال تعالى:" إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون " فهو سبحانه يكون كل شيء فيكون عقب تكوينه لا مع تكوينه في الزمان ولا متراخياً عن تكوينه، كما يكون الانكسار عقب الكسر والانقطاع عقب القطع ووقوع الطلاق عقب التطليق لا متراخياً عنه ولا مقارناً له في الزمان.
والقائلون بالتراخي ظنوا امتناع حوادث لا تتناهى، فلزمهم أن الرب لا يمكنه فعل ذلك، فالتزموا أن الرب يمتنع أن يكون لم يزل متكلماً بمشيئته، ويمتنع أن يكون لم يزل قادراً على الفعل والكلام بمشيئته، فافترقوا بعد ذلك، منهم من قال كلامه لا يكون إلا حادثاً، لأن الكلام لا يكون إلا مقدوراً مراداً، وما كان كذلك لا يكون إلا حادثاً، وما كان حادثاً كان مخلوقاً منفصلاً عنه لامتناع قيام الحوادث به وتسلسلها في ظنهم.
ومنهم من قال: بل كلامه لا يكون إلا قائماً به، وما كان قائماً به لم يكن متعلقاً بمشيئته وإرادته، بل لا يكون إلا قديم العين، لأنه لو كان مقدوراً مراداً لكان حادثاً فكانت الحوادث تقوم به، ولو قامت به لم يسبقها ولم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها.
ومنهم من قال: بل هو متكلم بمشيئته وقدرته، لكنه يمتنع أن يكون متكلماً في الأزل أو أنه لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته، لأن ذلك يلتزم وجود حوادث لا أول لها، وذلك ممتنع.