ثم إن هؤلاء لما قالوا بقدم عين الكلام تنازعوا فيه، فقالت طائفة القديم لا يكون حروفاً ولا أصواتاً، لأن تلك الحروف لا تكون كلاماً إلا إذا كانت متعاقبة والقديم لا يكون مسبوقاً بغيره، فلو كانت الميم من " بسم " قديمة مع كونها مسبوقة بالسين والباء لكان القديم مسبوقاً بغيره وهذا ممتنع فيلزم أن يكون القديم هو المعنى فقط ولا يجوز تعدده، لأنه لو تعدد لكان اختصاصه بقدر دون قدر ترجيحاً من غير مرجح، وإلا كان لا ينافي لزوم وجود أعداد لا نهاية لها في آن واحد، قالوا وهذا ممتنع، فيلزم أن يكون معنى واحداً هو الأمر والخبر ومعنى التوراة والإنجيل والقرآن وهذا أصل قول الكلابية والأشعرية.
وقالت طائفة من أهل الكلام والحديث والفقهاء وغيرهم بل هو حروف قديمة الأعيان لم تزل ولا تزال، وهي مترتبة في ذاتها لا في وجودها كالحروف الموجودة في المصحف وليس بأصوات قديمة، ومنهم من قال بل هو أيضاً أصوات قديمة، ولم يفرق هؤلاء بين الحروف المنطوقة التي لا توجد إلا متعاقبة وبين الحروف المكتوبة التي توجد في وقت واحد كما يفرق بين الأصوات والمداد، فإن الأصوات لا تبقى بخلاف المداد فإنه جسم يبقى، فإذا كان الصوت لا يبقى امتنع أن يكون الصوت المعين قديماً، لأن ما وجب قدمه، لزم بقاؤه وامتنع عدمه.
والحروف المكتوبة قد يراد بها نفس الشكل القائم بالمداد وما يقدر تقدير المداد كالشكل المصنوع في حجر وورق فإزالة بعض أجزائه (١) .
وقد يراد بالحروف نفس المداد، وأما الحروف المنطوقة فقد يراد بها أيضاً الأصوات المقطعة المؤلفة وقد يراد بها حدود الأصوات وأطرافها كما يراد بالحروف في الجسم حده ومنتهاه فيقال حرف الرغيف وحرف الجبل ومنه قوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " ونحو ذلك، وقد يراد بالحروف الحروف الخيالية وهي ما يسجل في باطن الإنسان من الكلام المؤلف المنظوم قبل أن يتكلم به وقد تنازع الناس هل يتمكن وجود حروف بدون أصوات قديمة لم تزل
(١) سقط من الأصل خبر المبتدأ فتركنا له بياضاً يضعه فيه من علمه