الحوادث إن كان ممكناً كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلماً إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة، وإن لم يكن جائزاً كان قولنا هو الصحيح، فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين.
فإن قلت: أنتم توافقوننا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على قدم العالم، قلنا لكم: موافقتنا لكم حجة جدلية، وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن الفاعل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم، وأنتم تقولون: إن قيل بالحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك، قلنا: إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه، وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه، فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في أن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده، فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلاً على جوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها، أكثر ما في هذا الباب أن نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها، وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول نخالف فيه العقل والنقل.
فنقول: إن كون المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، أو منفصل عنه لا يقوم به، مخالف للعقل والنقل، بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلاً ولا نقلاً، لكن قد نكون ممن نقله بلوازمه فنكون متناقضين، وإذا كنا متناقضين كان الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه، لا نرجع عن الصواب ليطرد الخطأ، فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث.
فإن قلتم: إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية؟ قلنا: بل قولكم أن الرب تعالى لم يزل معطلاً لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئاً