فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة، لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع - وهو الذل والسكون - لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله، بل يناسب حاله الإطراق وغض البصر أمامه. وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة رداً على أهل الإثبات الذي يقولون أنه على العرش كما يظنه بعض جهال الجهمية، فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر فالجميع سواء. ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.
وأيضاً فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملاً لجميع أحوال العبد. وقد قال تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) فليس العبد بمنهي عن رفع بصره مطلقاً، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى (خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث) وقال تعالى (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) .
وأيضاً فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات.
ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له، ولا مبين له، أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي ويزعمون أنه الحق ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقض قولهم، وهم يقولون أن ظاهر ذلك كفر فنؤول أو نفوض.