والثاني الأمور العملية الطلبية من أعمال الجوارج والقلب كالواجبات والمحرمات والمستحبات والمكروهات والمباحات، فإن الأمر والنهي قد يكون بالعلم والاعتقاد، فهو من جهة كونه علماً واعتقاداً أو خبراً صادقاً أو كاذباً يدخل في القسم الأول، ومن جهة كونه مأموراً به أو منهياً عنه يدخل في القسم الثاني، مثل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذه الشهادة من جهة كونها صادقة مطابقة لمخبرها فهي من القسم الأول، ومن جهة أنها فرض واجب وأن صاحبها بها يصير مؤمناً يستحق الثواب، وبعدمها يصير كافراً يحل دمه وماله، فهي من القسم الثاني.
وقد يتفق المسلمون على بعض الطرق الموصلة إلى القسمين كاتفاقهم على أن القرآن دليل فيهما في الجملة، وقد يتنازعون في بعض الطرق كتنازعهم في أن الأحكام العملية من الحسن والقبيح والوجوب والحظر هل تعلم بالعقل كما تعلم بالسمع أم لا تعلم إلا بالسمع؟ وأن السمع هل هو منشأ الأحكام أو مظهر لها كما هو مظهر للحقائق الثابتة بنفسها؟ وكذلك الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع على المسائل الكبار في القسم الأول، مثل مسائل الصفات والقدر وغيرهما مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، وأبى ذلك كثير من أهل البدع المتكلمين بما عندهم على أن السمع لا يثبت إلا بعد تلك المسائل فإثباتها بالسمع (١) حتى يزعم كثيرة من القدرية والمعتزلة أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن على حكمة الله وعدله وأنه خالق كل شيء وقادر على كل شيء، وتزعم الجهمية من هؤلاء ومن اتبعهم من بعض الأشعرية وغيرهم أنه لا يصح الاستدلال بذلك على علم الله وقدرته وعبادته، وأنه مستو على العرش.
وبزعم قوم من غالية أهل البدع أنه لا يصح الاستدلال بالقرآن والحديث على المسائل القطعية مطلقاً بناء على أن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين بما زعموا.
(١) بياض في الأصل لعل الساقط: متوقف على اثبات السمع بها