للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما يلاحظ أن "كانت" الألماني، يشبه العبارات الميتافيزيقة بورق نقد بدون ضمان، ويهدف إلى بيان: أن صنعة العقل الإنساني فيما بعد الطبيعة لا تأتي بيقين واقعي؛ لأن العقل لا يستطيع أن يأتي بيقين إذا اجتاز مرحلة الإنسان ودائرته الحسية إلى دائرة أعلى منها فوقها، وكل ما يأتي به عندئذ لا يخرج عن الظن والتخمين. إذ العقل بحكم أنه محدد: بالبيئة وبالمكان والزمان والثقافة الخاصة، والجو الطبيعي والاجتماعي والسياسي، لا يستيطع أن يأتي بيقين عن الموجود غير المحدود، وهو "الله" فالله مطلق في وجوده، لا تحدده شهوة ولا رغبة، ولا يحدده زمان ولا مكان، ولا شيء مما يحدد به الإنسان. ولذلك لا يستطيع الموجود أن يتصور غير المحدد تصورا تماما، وكل ما يفعله أن يقيس وجوده على وجود نفسه. وذلك ظن وليس بيقين! ومن ثم يطالب "كانت" في فلسفته بإفساح مجال القلب للإيمان وإبعاد العمل العقلي عن مجال الألوهية؛ وليس ذلك لأنه ينكر الألوهية؛ بل لأنه يريد أن يبعد العقل البشري عن الظن والتخمين.

وعلى هذا النحو طالب "الغزالي" ومن قبله أبو بكر "الباقلاني" و"إمام الحرمين الجويني" بإبعاد الصنعة العقلية عن مجال الألوهية ووضع الإيمان وتركيزه في القلب، بدلا من تركه في مركز المناقشة العقلية وتشبه حجة هؤلاء العلماء من المسلمين في ذلك حجة "كانت" أيضا، من حيث إن العقل لا يصل إلى يقين فيما بعد الطبيعة، ولذلك كان علم الكلام في نظرهم علما لا ينشئ عقيدة ولا ينمي اعتقادا.

وثاني المذهبين -وهو المذهب التجريبي كما تركه "هيوم" وقبل أن يتحول إلى "المذهب الوضعي" الذي تزعمه "أوجست كومت"- لا ينكر الوصول إلى "الله" عن طريق العمل العقلي، وهو العمل القائم على الربط والمشابهة بين الأفكار. وهو ينكر فقط أن تكون للمعرفة فيما بعد الطبيعة ميزة المعرفة الطبيعية في إمكان اختبارها والتثبت منها عن طريق التجربة.

نعم، بعد أن تحول هذا المذهب إلى "الفلسفة الوضعية" رغبت هذه الفلسفة الوضعية إلى "البحث الفلسفي" جملة أن ينهى توجيهه. ويبقى في "العلم" وفي الدائرة الإنسانية والطبيعية، إذا طلب لمعرفته صفة الحقيقة واليقين، وعلى الإنسان في سلوكه أن يبتدئ من ذات الفرد، وهي "أنا" ويسير منها للجماعة، وفي عبادته يجب أن يتجه إلى المجتمع والطبيعة الكبرى، دون أن يتجه بها إلى ما وراء الإنسان ووراء الجماعة وهو الله.

<<  <   >  >>