ولعلَّ مَرْجع هذه الصعوبة اختلاف اصطلاحات العلماء في تحديد معناه، نظراً لكونه اسماً مشتركاً يُطلق على عدد من المعاني، وهذا ما ترجمه الغزالي رحمه الله تعالى بقوله: (وكذلك إذا قيل: "ماحَدُّ العقل؟ " فلا تطمع في أن تحدَّهُ بحدٍ واحد، فإنه هَوَس، لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معانٍ، إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية، ويطلق على الغريزة التي يتهيّأ بها الإنسان لدَرْك العلوم النظرية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة حتى إنَّ مَنْ لم تحنّكه التجارب بهذا الاعتبار لا يُسمَّى عاقلاً، ويطلق على مَنْ له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه، وهو عبارة عن الهدوء فيقال:" فلان عاقل " أي فيه هدوء، وقد يطلق على مَنْ جَمَعَ العمل إلى العلم حتى إنَّ المفسد وإن كان في غايةٍ من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلاً...، فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود (١) .
ورغم هذه الصعوبة البالغة فقد اقتحم الأصوليون عُبابها وولجوا أبوابها فذكروا حدوداّ تبيَن حقيقة (العقل) من الناحية الاصطلاحية، ومن هذه الحدود ما يلي:
عرَّفه السرخسي الحنفي رحمه الله تعالى بقوله:(العقل نورّ في الصدر به يُبصر القلب عند النظر في الحجج) .
ثم أوضح ذلك بقوله:(بمنزلة السراج فإنه نور تبصر العين به عند النظر فترى ما يدُرك بالحواس، لا أنَّ السراج يوجب رؤية ذلك، ولكنه يدل على معرفة ما هو غائب عن الحواس من غير أن يكون موجباً لذلك، بل القلب يدرك بالعقل ذلك بتوفيق الله تعالى، وهو في الحاصل عبارة عن الاختيار الذي يبتني عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس)(٢) .