وأما القاضي أبو يعلى فقد وافق القاضي أبا بكر الباقلاني على حَصْر العقل في بعض العلوم الضرورية، ومَنَعَ جواز أن يكون المراد بالعقل جميع تلك العلوم فقال:(ولا يجوز أن يكون هو جميع العلوم الضرورية، ولا العلوم التي تقع عقيب الإدراكات الخمسة، لأن هذا يؤدي إلى أنّ الأخرس والأطرش والأكمه ليسوا بعقلاء، لأنهم لا يعلمون المشاهدات والمسموعات والمدركات التي تُعلم باضطرار ولا باستدلال، ولا يجوز أيضاً أن يكون العلم بُحسن حسن وقُبح قبيح، ووجوب واجب وتحريم محرَّم من جُمْلة العلوم التي هي عَقْل، لأنّ هذه الأحكام كلها معلومة من جهة السمع دون قضية العقل فوجب أنْ يكون بعض العلوم الضرورية)(١) .
وحيث إن قضية الحَصْر والشمول محل نزاع فإن تعريف (العقل) بواحد منهما تعريف لا يَسْلَمُ مِنْ نقدٍ واعتراض ولذلك فإني أرى أنَّ تعريف السرخسي رحمه الله تعالى هو التعريف الراجح للعقل، فالعقل نور إلهي يقذفه الحق تبارك وتعالى في القلب ليتمكن به من المعرفة والإدراك.
وهذا يعني أنَّ العقل ليس مكتسباً من العبد، بل هو هِبة إلهية ومنحة ربانية أنعم الله تبارك وتعالى بها على هذا الإنسان تمييزاً له عن سائر الحيوان.
المطلب الثالث: المناسبة بين الحقيقتين اللغوية والاصطلاحية للعقل بين الحقيقتين اللغوية والاصطلاحية للعقل مناسبة كبيرة وارتباط وثيق، فإنَّ (العقل) الذي هو عبارة عن نور إلهي قذفه الله تبارك وتعالى في قلب الإنسان تكريماً له على سائر أنواع الحيوان، هذا العقل الذي هو بهذه الصفة يتناسب غاية التناسب مع كل معنى لغوي فسَّره به أهل اللسان العربي فهو متناسب مع المعنى الأول (الحِجْرُ والنُّهى) الذي يضاد (الحُمْق) فإنَّ لذلك النور أثره العميق في النفس البشرية يهذَب سلوكها، ويقوَّم أخلاقها، ويلهمها رُشْدها، فلا تتصرَّف بحمق ورعونة، بل تتعامل مع الأشياء حولها بإدراكٍ واعٍ وحكمة مُتَّزنة.