فمن جعل المعرفة العقلية مقدمة على الدلالة النقلية يكون بذلك متخذاً العقل مشرعاً في دين الله تعالى بما لم يأذن به سبحانه، وهذا والعياذ بالله غاية الإسفاف ونهاية الانحراف.
ومن هذا كله نخلص إلى أن المعتزلة في بداية مسيرهم مع العقل لم يريدوا به أن يكون حاكماً على الشرع، بل أرادوا أن العقل طريق إلى العلم بالحكم الشرعي، ولكنهم بعد أن توغلوا في العقل بالغوا في تقديسه حتى جعلوه مقدماً على الشرع وحاكماً عليه، ومن هنا حذر الإسلام الحنيف من الغلو لأنه لا يأتي في نهاية مطافه إلا بعواقب وخيمة وأضرار جسيمة.
المبحث السادس: العقل عند الأشاعرة
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: استعراض موقفهم من العقل
كان موقف الأشاعرة من العقل ناشئاً عن ردة فعل عنيفة من موقف المعتزلة منه، فحيث بالغ المعتزلة في تقديس العقل وتهويل شأنه فقد بالغ الأشاعرة في تجميد العقل وسلبه القدرة على إدراك الحسن والقبح في الأشياء التي تُلامَسُ وتُشَاهَد.
... وليس ذلك افتراءً عليهم، بل إن أقوالهم التي تفوهوا بها شاهد صدق على هذا المُدَّعَى، وإذا اكتفيتَ بمثالين على ذلك فخذهما من قول الغزالي رحمه الله تعالى (لا يستدرك حسن الأفعال وقبحها بمسالك العقول، بل يتوقف دركها على الشرع المنقول، فالحسن عندنا ما حسنه الشرع بالحث عليه، والقبيح ما قبحه بالزجر عنه والذم عليه)((١) .
... ومن قول ابن برهان رحمه الله تعالى:(أطلق أهل الحق أقوالهم بأن حسن الأشياء وقبحها لا يدرك بقضيات العقول، إنما يدرك بالسمع المنقول)(٢) .
وهذا يعني إقصاء العقل عن أهلية الصدارة لإثبات حسن أو قبح في شيء من الأشياء، إذ ليس شأن ذلك إليه، بل هو شأن الشرع وحده.