للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل إنَّ الحق تبارك وتعالى بيَّن لنا في كتابه الكريم أنه لو عذَّب الناس على فعل ما تقَّرر في قضايا العقول قُبْحُه لاحتجوا عليه بمؤاخذته إياهم على شيء لم يثبت قُبْحهُ شرعاً لا بإرسال رسول ولا بإنزال كتاب وإنما بمجرد دلالة العقل، ولو كان العقل حقاً مستقلاً بذلك لما صح منهم هذا الاحتجاج، وفي ذلك يقول سبحانه: (ولو أنَّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (١) .

ويقول سبحانه: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين) (٢) .

وفي هذا دلالة قاطعة على أن الثواب والعقاب قضية شرعية طريق ثبوتها الرسول المرسل والكتاب المنزل، وليس قضية عقلية يستأثر العقل بها، فللعقل أن يدرك الحسن والقبح من غير أن يرتب على ذلك ثواباً أو عقاباً، فليس هو رسولاً ولا كتاباً.

ثالثاً: أن السمة الثالثة وهي: " تقديم معرفة العقل على دلالة النقل " تعني جعل العقل أصلاً للشرع، وهذا يفضي إلى نسف الشرائع من أصلها، فيكون إرسال الرسل وإنزال الكتب عبثاً محضاً، إذ يمكن الاستغناء بذلك عن الرسل والكتب، وإذا كان للشرع من فائدة تُذكر والحالة هذه فإنما هي تأكيد ما استقر في قضايا العقول، فهو بذلك رديف مساند إن جاء موافقاً للعقل قُبل، وإلا فالهيمنة للعقل الذي هو أصل التشريع ولب التفريع.

وهذا بلا شك مزلة قدم خطيرة، إذ كيف يُقدَّم العقل الذي هو فكر بشري محدود بنطاق الزمان والمكان محفوف بنوازع الهوى على شرع إلهي صادر ممن أحاط علمه بالزمان والمكان من غير قصور في الإدراك أو خلل في الاستيعاب؟

ولقد أنكر الحق تبارك وتعالى ذلك أشد الإنكار حين قال: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) ((٣)) .

<<  <  ج: ص:  >  >>