ومما يدل على قصور إدراك العقل للحُسْن والقُبْح أنَّ الشارع قد ورد باستقباح ما كانت عقول العرب تستحسنه في الجاهلية وطرفاً من الإسلام وهو (شُرْب الخمر) ، إذ كانت الخمرة عندهم معدودةً من الطيبات، بل إنها في عرفهم من ألذ الطيبات على الإطلاق فكانوا يتغنون بها في أشعارهم ويتسامرون بها في مجالسهم، فنبَّه الشارع الحكيم العقلاء إلى أنها قبيحة نظراً لما تفضي إليه مِنْ أضرار بالغة تتصادم في حقيقتها مع مصالح الدين والدنيا، وهذا ما أكَّده الحق تبارك وتعالى بقوله:(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)(١) .
وإذا كان الشارع الحكيم قد نبَّه العقلاء إلى خطأ ما استحسنته عقولهم فإن ذلك دليل على أن العقل ليس مستقلاً وحده بإدراك الحُسن والقبح.
وثمَّة أمْر آخر وهو أنَّ حَصْر إدراك الحُسْن والقُبْح في العقل وحده يفضي إلى محذور شرعي كبير، وهو أنه ليس للشرع أنْ يعترض على حُكْم العقل بتقبيح ما استحسنه أو تحسين ما استقبحه، إذ ليس ذلك إليه بل هو من اختصاص العقل وحده دون منازع، وهذا وإنْ تنصَّل منه المعتزلة وزعموا أنهم لم يقصدوه إلا أنه لازم قولهم ومقتضى كلامهم.
ثانياً: أن السمة الثانية التي مقتضاها: " تأهيل العقل لتشريع الثواب والعقاب " هي في حد ذاتها استئصال لقاعدة شرعية قرَّ رها الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم، وهي:
" أنه لا عذاب إلا بعد إرسال الرسل " أَخْذاً من قوله سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(٢) .
وإذا انتفى العذاب قبل البعثة انتفى الثواب كذلك، ولو كان العقل مُؤَهَّلاً لتشريع الثواب والعقاب ومستقلاً بذلك لما جعل الحق تبارك وتعالى ثبوت العقاب والثواب خاصاً بورود الشرع دونه.