للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنَّ اللغاتِ تتأثرُ بحضارات الأمم ونظمِها، وتقاليدها، وعقائدها، واتجاهاتها النفسية والثقافية وغير ذلك من شئون الحياة الاجتماعية، وكلّ تطور يحدث في ناحية من هذه النواحي يتردد صداه في أداة التعبير وهي اللغة، لذلك تُعَدُّ اللغات أصدق سجل لتاريخ الشعوب. فكلما اتسعتْ حضارةُ الأمةِ، وكَثُرتْ حاجاتُها، ورقي تفكيرها، وتهذيتْ اتجاهاتُها النفسيةُ، نهضت لغتُها وسمتْ أساليبُها وتعددتْ فيها فنونُ القول. وهلم جرا (١) .

واللغة العربية أصدق شاهدٍ على ما نقول فقد عُدَّتْ في مقدِّمة اللغات الراقية لما وصلت إليه من تهذيب في ألفاظها وسموٍّ في أساليبها، ودقةٍ في تراكيبها، ومرونة في التعبير عن حاجاتها، وتنوعت فنون القول فيها حتى سحرت كثيراً من الباحثين - قدماء ومحدثين - فرأوها أفضل اللغات وأفصحها، وأجملها، وفي ذلك يقول ابن جنيِّ من القدماءِ:

((وذلك أنّا نسأل علماءَ العربيةِ مِمَّنْ أصلُه عَجَميٌّ وقد تدرب بلغته قبل استعرابه عن حال اللغتين، فلا يجمع بينهما، بل لايكاد يقبل السؤال عن ذلك، لبعده في نفسه، وتقدم لطف العربية في رأيه وحسهِ. سألت غيرَ مرَّةٍ أبا عليٍّ - رضي الله عنه.. عن ذلك، فكان جوابه عنه نحواً مما حكيته ... ولم نر أحداً من أشياخنا فيها - كأبي حاتم وبُنْدَار وأبي عليٍّ، وفلان وفلان - يُسوُّون بينهما، ولا يُقرّبون بين حاليهما. وكأنَّ هذا موضعٌ ليس للخلاف فيه مجالٌ لوضوحه عند الكافَّةِ)) (٢) .

ويقول ابن خلدون: ((وكانتِ الملكةُ الحاصلة للعرب من ذلك أحقَّ الملكاتِ وأوضَحها بياناً عن المقصد)) (٣) .

ويرى ابن فارس أن اللغة العربية أفضل اللغات وأوسعُها، وذلك دليلٌ على أنَّ اللَّهَ اختارها لأشرف رسله وخاتم رسالاته، فأنزل بها كتابه المبين (٤) . وإلى مثل هذا ذهب السيوطيُّ وغيره من القدماء (٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>