ومع وضوح المحجة وقيام الحجة، فإن الذين فتنوا واغتروا بعقولهم القاصرة، لم يسعهم هذا المنهاج الواسع، والضياء اللامع، واستعاضوا عن الاستنارة بنور الوحي والسير في ضوئه ونهاره، بالوثب على الغيب بأنواعه وأقسامه، فاصطلموا بنيران الحجب وصواعق الشهب أيما اصطلام، كما تصطلم الهوام والفراشات باقتحام النيران المشتعلة في ليلة مظلمة، وهكذا كان كل من استعذب الخوض في لجج الغيب بلا هدى من نصوص الوحي، وحاول السباحة في الاتجاه العكسي للحق المبين، وجعل عقله القاصر وفكره الحائر حاكماً على نصوص الوحي الثابتة، فما وافق عقله ومزاجه العكر قبله، وما لم يجده موافقاً لهواه أوله وحوله، أو رفضه ورده بحجة مخالفته لعقله، أو طعنه في دلالته ونقله.
وسبب ذلك راجع إلى اعتبار عالم الشهادة أصلاً يقاس عليه ويلحق به ما كان من عالم الغيب، أو غيب الغيوب الخاص بربنا تبارك وتعالى، والأصل فيما لا تجانس بينها عدم التشابه، وعدم قياس بعضها على بعض ما دام التجانس غير متحقق كما سبق بيانه في المبحث السادس، ولبيان ما أدى إليه هذا التوجه من الأخطاء في تصور الغيبيات إليك أمثلة لما جنح إليه العقلانيون في دفع معاني النصوص الشرعية إلى ما تقره عقولهم وتتقبله أفكارهم غير مقيمين لدلالة النصوص وزناً، وقد غفلوا عن حقيقة ثابتة هي أن النصوص الشرعية وحي من الله تعالى، ووحي الله تعالى هو حبله الذي يعصم من اعتصم به، وأن ما أخبرت به النصوص الثابتة عن المعصوم يؤخذ به على الوجه الذي وردت به تلك النصوص، لا يزاد عليها ولا ينقص منها إلا بدليل شرعي، وأن الاجتهاد في تصور الغيبيات وإدراك حقيقتها مما لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله، فمن أقدم على ذلك فقد ضل ضلالاً بعيداً.
وأما أهل العلم بالكتاب والسنة الراسخون فيه فهم كما وصفهم الله تعالى: