أما وسائله إلى تلك اللوامع التي لمعت له من عالم الغيب من العلم فهي نصوص الوحي التي أنزلها الله تعالى على رسله صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى العلم بعالم الغيب إلا الوحي الرباني الذي بلغته الرسل إلى الأمم بلاغاً مبيناً، ووعته وحفظته من التبديل والتحريف، وتناقلته بالصدق والأمانة والضبط والدقة حتى تلقته الأجيال عن العدول الثقات جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن.
وإن هذا التلقي المتصف بهذه الصفات لم يتوفر إلا لهذه الأمة الخيرة التي اختارها الله تعالى لحمل أمانة التبليغ عن رسول الله الذي بلغ البلاغ المبين، وأشهد ربه على أنه قام بذلك خير قيام على الوجه الذي أمر الله تعالى به وقال قبل وفاته بقليل مرارا وتكرارا أي في حجة الوداع:(ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) . وقد حث أمته على حفظ ما بلغهم وتبليغه إلى من بعدهم بدقة وضبط، ودعا لمن فعل ذلك قائلا:(نضر الله عبدا سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها)(١) .وقال:(بلغوا عني ولو آية) . فقامت أمته بما أمرت به خير قيام، إذ وعت نصوص الوحي وبلغت إلى من بعدها كما سمعتها، ولم تنافسها في ذلك أمة من الأمم، لا في اتصال السند وضبط النصوص، ولا في تحري الصدق والأمانة والحفظ. حتى غدت مكائد أعدائها من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين الذين بذلوا جهوداً عظيمة في تحريف النصوص، ووضع الأحاديث في مهب الريح أمام جهود أئمة الإسلام الأمناء، فباءوا بالخيبة والخزي والعار، فبقيت بذلك المحجة بيضاء نقية ليلها كنهارها كما قال:(وأيم الله لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء) .