وقد جعل الله تعالى لهذه الوسائل قدرة محدودة، ومدى لا تتجاوزه، ولكنها تتفاوت قوة وضعفاً تفاوتاً يسيراً، فمن الناس من أوتي قوة السمع أكثر من غيره، ومنهم من أوتي حدة الإبصار أكثر من غيره، وكذلك في سائر الحواس والوسائل التي يدرك بها عالم الشهادة، يوجد شيء من التفاوت غير أن الغالب من الناس تكاد هذه الوسائل تتفق في مداها، إلا ما كان منها متعرضاً لمانع طارئ.
ويكون ما تجاوز المدى المألوف من هذه الوسائل نادراً جديراً بالإشارة والتنبيه إليه.
أما ما خرج من وصول الإنسان إليه بهذه الوسائل لكونه خارجاً عن مداها، فهو مما يعتبر غيبا، ولكنه غيب بالنسبة لمن كان خارجا عن حدوده ومداه، أما بالنسبة لمن كان قادرا على الوصول إليه بها فليس بغيب، ويسمى هذا بالغيب النسبي لأجل ذلك كما سبق بيانه.
وهذا كله إن كان مما هو قائم في الزمن الحاضر، إذ لا تعلق لتلك الوسائل إلا بما هو موجود قائم في زمنها، فمن أجل ذلك سمي بغيب الزمان الحاضر.
ويضاف إلى تلك الوسائل التي خلقها الله في الإنسان ليعلم بها ما يوجد معه في عالم الشهادة؛ الوسائل الحديثة التي صنعها الإنسان، والتي مكنته من الإطلاع على ما لا تصل إليه الوسائل الخلقية، فرأى بها البعيد وكبر بها الأجرام الصغيرة التي لا تراها العيون واخترق بها الحواجز والستائر والحجب، وسمع بها من الأصوات ما لا يمكن أن يسمع بالأذن المجردة عن الوسائل الحديثة لبعدها وخروجها عن مدى السماع، أو لضعفها وخفوتها بحيث لا تقوى الآذان على سماعها، وكذلك الوسائل الحديثة الأخرى التي أرسلها الإنسان إلى الأماكن البعيدة، فلمست أجهزته ما لا يمكن أن تلمس يده من الأجسام، وتعرف بها الإنسان على الطعوم والروائح التي لا يستطيع معرفتها بحاستي الذوق والشم اللتين لا يدركهما الإنسان بالوسائل الخلقية.