.. وظاهرة التكثيف والتركيز تبدو في مقدمته هذه أكثر وضوحاً منها في سابقتها. فقد اكتفى حسان في تحديده لموضع الطلل بذكر مكان واحد هو (بواط) ، وقاده هذا إلى الاستغناء عن تقليد آخر من تقاليد المقدمة الطللية وهو العطف بين الأماكن بالفاء. وحينما ذكر ما تبقى من آثار الديار اكتفى أيضاً بذكر أثر واحد هو الأثافي، وضرب صفحاً عن ذكر ما سواه من الآثار التي تطالع قارئ الشعر الجاهلي، من: نؤي، وأوتاد، ورماد وغير ذلك. وعندما شبه الأثافي بالقطا لم يذكر شيئاً من أحوال المشبه به، بل اقتصر على ذكرها دون وصف في حين دأب شعراء الجاهلية على وصفها بالوقّع أو الجثّم أو غير ذلك. وحين استرجع ذكرياته بذلك الطلل لم يذكر منها إلا النزر، وأعرض عن ذكريات يوم الرحيل، وما أثارته في نفسه من مشاعر.
... والشخصان اللذان ظهرا مع الشاعر على مسرح الطلل ليسا الرفيقين التقليديين اللذين عهدناهما في مقدمات القصائد الجاهلية، فالشاعر لم يطلب إليهما أن يسعداه بالبكاء، ولا أن يتبصرا ليريا الركب يسير في الطرق الرملية بين الكثبان، وإنما هما مجرد شخصين عاديين يلتمس منها أن يبلغا عنه رسالة.
... وحديثه عن وحشة الديار جاء موجزاً مبتسراً، كما أن الاقتصاد في التعبير بالصورة يعد علامة بارزة في هذه المقدمة، مثلما هو في المقدمة السابقة.
... ومن حيث نزعته إلى التحرر من تقاليد المقدمة الطللية نجده قد استغنى عن عدد منها، مثل: استيقاف الصحب، والبكاء على الطلل، وذكر ما غيره من عوامل الطبيعة، وما حل به من عين وآرام أو غير ذلك. يقول بعد المطلع: