للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يستهلها بلوحة الطيف، حيث يوجه تحيته إلى صاحبته (النضيرة) ربة الخدر، التي زاره طيفها ليلاً، وهو نائم؛ على الرغم من صدّها وهجرها في اليقظة، ثم يبدي استغرابه من اهتداء ذلك الطيف إليه، على الرغم من بعد الشقة، ونأي المسافات، وتوغل الشاعر وصحبه في البيداء، ونزولهم في مكان مقفر موحش. قال حسان بعد المطلع:

فَوَقَفْتُ بِالبَيْدَاءِ أَسْأَلُهَا

أَنّى اهتَدَيْتِ لِمَنْزلِ السَّفْر

ثم ينقلنا إلى اللوحة الثانية، لوحة الرحلة، وفيها يصف رحلته في الصحراء وهي رحلة شاقة، طال فيها السفر، واشتد الحر، وأدرك المطايا الإعياء فكف السَّفْر عن زجرها، وأرخوا أعنتها، إشفاقاً عليها، لما لمسوه فيها من الإنهاك والإرهاق، بعد أن انبرى لحمها، واستبان لهم ضمورها.

... لقد ظل الشاعر وصحبه في تلك الرحلة يصرون على مواصلة السير، حتى في وقت القيلولة، حين تتوسط الشمس في كبد السماء، على الرغم من ثقل ذلك على نفوسهم، وشدّة إحساسهم بطول النهار؛ على إبل نجيبة، ضامرة سريعة، موائل الرؤوس من جذب الأزمة، تتدفق نشاطاً وحيوية، وتعطي أقصى ما تستطيع من قدرة عن طواعية، دون حاجة إلى زجر أو حث، لا يعيقها عن السير في لفح الهواجر عائق، فتراها تزفر في بُرى النحاس المعلقة في مناخرها. وإذا ما أناخت للراحة في منزلة من منازل الطريق، تراها كالقطا الجثم التي اختلط سوادها بصفرة. وما تلبث أن تنهض مستأنفة سيرها، تحت وقد الظهيرة، في الوقت الذي يرتفع الحرباء على عوده، ويهم بالحركة، ويتعالى صرير الجنادب، يقول حسان:

وَالعِيسُ قَدْ رُفِضَتْ أَزِمَّتُها

مَمَّا يَرَوْنَ بِهَا مِنَ الفَتْرِ

وَعَلَتْ مَسَاوِيها مَحَاسِنَهَا

مِمَّا أَلَحَّ بِهَا مِنَ الضُّمْرِ

حتّى إِذَا رَكَدَ النَّهارُ لَنَا

نَغْتَالُهُ بِنَجَائبٍ صُعْرِ

عُوجٍ نَوَاجٍ يَعْتَلِينَ بِنَا

يُعْفَين دًونَ النَّصِّ والزَّجْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>