للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثورة الفرنسية التي قامت في ١٧٨٩ م هي، كما يقول لويس كاقاريه Louis Cavar'e، وليدة المذهب الفردي L’individualisme (١) . إنها التجلِّي الأقوى للروح الفردية التي حرّكا العالم الأوروبي منذ عصر النهضة La Renaissance والتي نمت منذ ذلك الحين في اتجاهين: اتجاه صاعد نحو جعل الفرد هو الحقيقة الجوهرية بل المطلقة، واتجاه ممتدّ في دائرة الجمهور. وقد وصل الاتجاهان إلى الذروة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صادقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية في ٢٦ آب ١٧٨٩ م. فالحرية التي يولد الناس عليها، كما تقول المادة الأولى من الإعلان، هي حرية مطلقة لا قيد عليها إلاّ القيد الذي يجعل الناس سواسيةً في التمتع بها. وفي المناقشات التي جرت في الجمعية الوطنية الفرنسية حول حرية الفكر انتصرت الروح الليبرالية (٢) التي عبَّر عنها ميرابو Mirabeau، خطيب الثورة الفرنسية الشهير، أقوى تعبير. فلا توجد في نظره حقيقة خارجية، حقيقة مستقلة عن الوعي أو سابقة للتصوّر؛ إنما الحقيقة بنت الوعي، إنها ما يراه الفرد في داخل وعيه ويعتقده الحقيقة؛ ولذا فالآراء كلها، صحيحها وزائفها، ذات قيمة متساوية (٣) . فحرية الفكر في إعلان ١٧٨٩ م هي إذن حرية مطلقة؛ إنها سيادة العقل الفردي La Souverainete de La raison individuelle التي نادى بها من قبل الفيلسوف الانكليزي جون لوك John Locke (١٦٣٢ - ١٧٠٤) الذي يعتبر (واضع أسس فلسفة حقوق الإنسان) (٤) . وبديهي أن هذا المفهوم الليبرالي للحقيقة ينطوي على نفي كل معيار موضوعي للسلوك الفردي؛ فالخطأ، كما يقول ميرابو، له حق مساوٍ لما للصواب من حق (٥) . لا يجوز إذن للقانون أن يتدخَّل في مجال الحرية الفردية؛ لا يجوز له أن يفرض على الفرد واجبات مسبقة تقيِّد حريته المطلقة. ولهذا كان إعلانُ ١٧٨٩ إعلانَ حقوق ولم يكن إعلان حقوق وواجبات. وجدير بالذكر أن الجمعية الوطنية

<<  <  ج: ص:  >  >>