فالشنفرى يطلب من أهله - ونبرة الحزن بادية عليه - أنْ يستغنوا عنه، لأنّه يميل إلى غيرهم٠ وهذا الميلُ ليس عقوقاً منه، وإنّما بسبب ما لحقَهُ من ظلم وأذى وقطيعة ٠ ولعلّ هذا المنطلق يشكّل مدخلاً لقراءة هذه القصيدة ٠ ولم ينسَ الشاعر أنْ يتوقّف عند تشرّده وجوعه وصبره إلى جانب تصريحه بأنه يفضّل وحوش الصحراء على قومه، لأنّ تلك الوحوش تحافظ على سرِّ الإنسان وتحترمه ٠ والسؤال الذي يُثار هنا: هل تغمر البهجةُ الشاعرَ وهو يفتخر بأنّه استطاع مصادقةَ أشرس أنواع الحيوانات الصحراويّة كما يزعم بعض النقاد الذين فسّروا ذلك بإبراز الشاعر لقوّته وقدرته، ومن ثَمّ سعادته؟ إنّ الإجابة ستكون بالنفي؛ لأنّ هذين البيتين يكشفان عن شخص بائس ومتعب وحزين ومرهق، ويكاد يختنق ممّا جرى له ٠ ولعلّ أبسط ما يدلّ على ذلك شكواه من أنّ هذه الحيوانات تكتم السرَّ؛ أي إنّ البشر لا يكتمون السرّ ٠ والشاعر بهذا يكشف عن معاناته الشديدة من جرّاء ذلك ٠ ثمّ ما الذي يدفع شخصاً ما إلى الخروج على القبيلة والهجرة إلى الصحراء، وموالفة الوحوش، والأفاعي، ومقاومة الجوع والتشرّد لولا المعاناة الشديدة التي دفعته إلى ذلك ٠
إنّ نصَّ الشنفرى ينطوي على الفخر بالذات، ولكنّه فخرٌ مبنيّ على ألمٍ لا يقاوَم ٠ وليس من الممكن قراءة هذا النصّ إلاّ ضمن المعطى التراجيدي الذي يحكمُه ٠
ونحن نرغب أنْ نختمَ هذه الفقرة بالدّعوة إلى إعادة النّظر في ظاهرة الصعلكة في العصر الجاهلي من منطلق كونها " ظاهرة تراجيدية "٠ ونعتقد أنّ دراستها على هذا الأساس ستجعلنا نضع أيدينا على حقائق فنيّة وجماليّة هامّة تتعلّق بروح شعر الصعاليك وجوهره؛ وستنقلنا من الخارج إلى الدّاخل، أي من الهامشي إلى الجوهري، وستجيب عن تساؤلاتنا الكثيرة التي لم تُجدِ معها الطرائق السابقة نفعاً ٠