ونحن بحاجة ملحّة إلى أنْ نقرأ شعرنا القديم بطريقة تتناسب وطبيعته ٠ إذ ليس بالضرورة تطبيق كلّ المناهج، أو أكثرها حداثة في النقد على الظاهرة؛ فكلّ هذا ليس هو المهم، بل نعتقد أنّ معرفة الزاوية الصحيحة لقراءة الظاهرة هي الأهم للتغلغل إلى أعماقها، وجوهر روحها وشعريّتها ٠ فدراسة " يوسف خليف " المذكورة تناولت ظاهرة الصعاليك ضمن معطيات تنطبق على أيّ ظاهرة أخرى في أي عصر، ولم تبحث عن المدخل الخاص الذي يميّز تلك الظاهرة ٠ ولذلك لم تقدّم سوى ما هو وثائقي وخارجي بالنسبة إليها ٠ ومثلُ هذه الدراسة كثيرٌ في نقدنا الحديث الذي تناول الشعر العربي القديم، وظَلَمَهُ٠
لقد انطوى شعر الصعاليك على مقولات مثل: الاغتراب، والأسى، والمرارة، والظلم، والإهمال، والاضطهاد، والجوع والفقر ٠ وهذه ساهمت جميعها بإثبات " هويّة التراجيدي " ٠ ولعلّ عروة بن الورد يبيّن سبب كلّ ذلك بقوله:
وسائلةٍ: أين الرّحيلُ؟ وسائلٍ
ومَنْ يسألُ الصعلوكَ: أين مذاهبه
مذاهبُه أنّ الفجاجَ عريضةٌ
إذا ضنَّ عنه بالفعال أقاربه (١)
ويمكن الزعم أنّ " لامية الشنفرى " هي أبرزُ ما يمثّل انكسار الحلم الذاتي وزعزعة الثقة بالقبيلة ٠ وهي التي تردّد المقولات المذكورة، وتؤكّدها؛ فهو يبدؤها بحزن شديد، وعتاب لأهله الذين ضيّقوا عليه ٠ وهو يؤكّد لهم أنّ الأرض فسيحة، ويمكن له أنْ يستبدلهم بغيرهم ٠ فهو أصبح – بعد الذي لحقه في قبيلته – يفضّل وحوش الصحراء عليهم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن صبره على الجوع وما يعانيه من تشرّد وشقاء ٠يقول:
أقيموا بني أميّ صدورَ مطيكم
فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ
وفي الأرضِ منأىً للكريم عن الأذى
وفيها لمن خاف القِلَى متعزَّلُ
ولي دونكم أهْلونَ سيد عملَّس
وأرقطُ زهلولٍ وعرفاءُ جيألُ
همُ الأهلُ لا مستودعُ السّرِ ذائعٌ
لديهم ولا الجاني بما حرَّ يُخذلُ (٢)