وهكذا فإن الثورة الفرنسية التي قامت ضد السلطان المطلق للملوك قد أحلّت (المواطن الحديث) الذي ولد مع إعلان ١٧٨٩ م محل الملك في التمتع بالسلطان المطلق، مع فارق خطير هو أن المواطن الحديث يستمدّ سلطته السياسية من نفسه أو فرديته المطلقة بينما كان الملك يستمدّها من نظرية التفويض الالهي. وبتعبير أكثر دقة فإن عمل الثورة الأساسي الذي عبَّر عنه إعلان الحقوق هو نقل السيادة من الملك إلى الأمة مع تجريد السيادة من كل ما كان يمكن أن يشوبها، بحكم سندها القانوني القديم (نظرية التفويض الالهي) ، من تأثير للدين أو للضمير، أي مع جعلها إرادة بحتة. إن المجتمع الدمقراطي الذي ولد مع إعلان ١٧٨٩ م هو مجتمع من الآلهة، لأن أفراده ينحون منحى الآلهة في تقرير الحقيقة وفي اتخاذ القرار. ونستطيع في ضور ما تقدّم أن نرى مدى دقة الوصف الذي يقدِّمه جابرييل كوميايره Gabriel Compayre لحقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة: إن المؤسِّسين (ويقصد بهم أعضاء الجمعية الوطنية أو التأسيسية كما سمّت نفسها لاحقاً) يخلعون على حقوق الإنسان الخصائص التي كان يُعترف بها قديماً لحقوق الملوك (١) . إن هذا التشبيه يصف نصف الحقيقة؛ أما الحقيقة الكاملة فهي أن ثورة ١٧٨٩ م قد أحلّت الإنسان محل الله بواقع مضمونها الفكري. وحقَّ إذن لجماعة الدول الأوروبية المسيحية أن تصرخ محذِّرة:((إنها قضية حياة أو موت للحضارة، لسلام أوروبا والمجتمع المدني)) (٢) . لقد قال أعضاء الجمعية الوطنية في مقدمة إعلانهم إنهم اجتمعوا في حضرة الكائن الأعلى (Sous les auspices de l’Etre supreme) ؛ فهل كان الكائن الأعلى في أذهانهم هو الله أم الأمة أم الإنسان؟!