للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نشبت الثورة الفرنسية في أواخر عصر التنوير (القرن الثامن عشر) ، ولهيبها لم يكن إلاّ وهج أنوار ذلك العصر؛ وهي أنوار سطعت في مختلف أقطار أوروبا فأصبحت مهيَّأةً كفرنسا للتغير العميق القادم؛ وإذا كان سيل الثورة الهادر قد تفجّر في فرنسا فإنه لم يكن إلاّ ذروة تيار عقلي اكتسح سائر القارة الأوروبية. لقد كانت مناقشات حقوق الإنسان، التي جرت داخل الجمعية الوطنية، (متأثرة إلى حد كبير بأفكار فلاسفة التنوير) (١) . ويجدر بنا الإشارة إلى أن تلك الثورة الثقافية الأوروبية اتي نجمت على يد فلاسفة التنوير (روسو ومونتسكيو وفولتير في فرنسا، كانت في ألمانيا، جيفرسون في أمريكا، على سبيل المثال) قد تجاوزت دائرة النخبة المفكرة وأسفرت عن ظهور جيل يؤمن بالإنسان بل يمجِّده ويعتبره الحقيقة الأساسية ويؤمن بالقدرة الهائلة للعقل الإنساني (٢) . لقد أصبح المذهب الفردي آنذاك هو مذهب الإنسان الأوروبي بعامة. ويتبين لنا من ذلك أن الجمعية الوطنية الفرنسية كانت في إنجازاتها الفكرية والقانونية مدعومة بتيار عام يجمع حولها الأمة الفرنسية بفئاتها المختلفة ويدفعها إلى النجاح في تحقيق رسالتها التحررية. كانت الثورة إذن في جوهرها ثورة عقلية، ثورة العقل الأوروبي على النظام القديم الذي كان الإنسان فيه يرسف في قيود الخضوع، خضوعه للملكية المطلقة وخضوعه للكنيسة؛ وكلتاهما سلطتان مطلقتان سيطرتا على الشعوب الأوروبية خلال قرون عديدة. وقد سمِّيتْ “ ثورة الفقهاء ” revolution des juristes؛ وهي تسمية تشير بلا ريب إلى أنها كانت في مرحلتها الأصلية حدثاً قانونياً حاسماً، وإلى أن العنف طارئ عليها. والكيفية التي وقع بها ذلك الحدث الفذّ تستوجب الوقوف عندها قليلاً لما تحمله من دلالة بالغة الأهمية:

<<  <  ج: ص:  >  >>