ونستطيع أيضاً أن نرى ما في تيار الإنسانية هذا من قوة اندفاع نحو تحطيم القوالب التقليدية للعقل والحياة والدولة: إنه تيار يتغذى على تكريس إرادة القوة في الفرد والدولة على السواء. وقد وصل هذا التيار مع رينيه ديكارت Rene Descartes في القرن السادس عشر إلى لحظة التحطيم الجذري لهذه القوالب التقليدية عندما أطلق قولته المشهورة: ((أنا أفكِّر، إذن أنا موجود)) ؛ وهكذا هدم ديكارت جميع الحقائق أو، وفق لغته، أحلام العالم الموضوعي ونهضت من بين ركام الحقائق المنهارة هذه الأنا التي تتكلم في فراغ مطلق وتقرِّر الحقائق كما يقرِّرها إله. وواضح أن أولوية الأنا عند ديكارت تتجاوب مع أولوية الوعي عند القديس أوغسطين وواضح أيضاً أن اعتباره الحقيقة فكرة العقل ذاتها يتجاوب مع قول القديس توماس الاكويني إن الإنسان هو جوهرياً عقل. وهكذا فإن العصور القديمة والوسطى والحديثة تلتقي على أمر جامع هو تأليه الإنسان أو بالأحرى تأليه الأنا الفردية La divinisation du moi؛ وهو، كما رأينا آنفاً، الطريق الذي يوصل طبيعياً إلى تأليه الدولة. وليس هذا التأليه للإنسان فكرة مستقرة في العقل الباطن الأوروبي فحسب، بل هو فكرة واعية وجدت تعبيرها الصريح في البيئة المسيحية في العصر الوسيط حيث ظهر تعريف للإنسان بأنه إله ثانٍ L’homme est un second dieu (١) . لقد قدّم ديكارت لأوروبا أساساً جديداً للفكر والحياة حينما هدم جذرياً ثنائية العقل والحقيقة وحرّر الإنسان الأوروبي من ربقتها ومما تنطوي عليه من قيود للفكر والسلوك؛ إن صيحته المشهورة الآتية من أعماق الحضارة الأوروبية المسيحية تعلن نهاية النظام القديم وتفتتح عهد الإنسان الحرّ والدولة الحرة: عهد الإنسان الذي (يقرِّر) الحقيقة بوعيه الفردي البحت و (يبتكر) تصرفاته بإرادته الفردية البحتة، وعهد الدولة صاحبة السلطة العليا المطلقة أي الدولة ذات السيادة؛ إنها بشارة