للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلى أوروبا بالدخول في عصرها الحديث، عصر الدول القوية وحركة التوسع الأوروبي. وإذا كان ديكارت قد حرّر العقل نهائياً من قوالب بنيته التقليدية وأطلق حيويته الحرة فإنه قد ضمن بذلك لمنهجه أن يصل في تأثيره إلى الدرجة التي يشير إليها لويس كارديه Louis Gardet بقوله إنه بلغ حدّ توجيه منطق الرجل العادي (١) . ونستطيع إذن أن نؤرخ بهذه اللحظة الفاصلة من تاريخ أوروبا بدء مسيرتها نحو الديمقراطية الحديثة، حيث بزغ فجر إيمان جديد، إيمان الفرد بنفسه إيماناً جعله في وعي حقيقةً مطلقة؛ وتلك هي المسيرة الطويلة التي سوف تتوِّجها الثورة الفرنسية في ١٧٨٩ م. ولا ريب في أن نموّ هذا الإيمان الجديد يبدِّد تدريجياً في وعي الفرد والجماعة صورة صاحب السيادة بوصفه حقيقةً مستقلة عن الجماعة بحيث يصبح صاحب السيادة هو الجماعة نفسها وتصبح هي مصدر السلطة والقانون. ونستطيع أن نرى هذا التحوّل العميق عندما نقارن بين مفهوم جون لوك وبين مفهوم جان جاك روسو لصاحب السيادة في نظريتيهما عن العقد الاجتماعي. فالعقد الاجتماعي عند لوك ينعقد بين طرفين أحدهما الجماعة والثاني فرد يصبح بمقتضى العقد صاحب السيادة؛ وهذا العقد ينشئ حقوقاً وواجبات متبادلةً بين طرفيه بحيث تكون سلطة صاحب السيادة نسبية خاضعة لشروط معينة تتحكم في نشوئها وفي بقائها. أما العقد الاجتماعي عند روسو فإنه عقد تبرمه الجماعة مع نفسها وتصبح بمقتضاه هي صاحبة السيادة وتكون سلطتها بطبيعة الحال مطلقة؛ إن حصيلة العقد الاجتماعي هي ما أسماه روسو سيادة الإرادة العامة (٢) . إنَّ انهيار ثنائية العقل والحقيقة على يد ديكارت، أي صيرورة الحقيقة فكرة العقل ذاتها، قد أذن بانهيار ثنائية الإنسان والدولة وصيرورة الفرد، وبالتالي الأمة، جوهر الدولة وحقيقتها النهائية. وإن هذه الأحادية العقلية والسياسية التي هي روح العصر الحديث هي الطور الأخير الذي أصبحت تسير نحوه

<<  <  ج: ص:  >  >>