للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدولة سيراً تصاعدت قوته خلال عصر التنوير حيث ظهر جيل جديد متشبع بالمذهب الفردي. وفي طورها الأخير هذا تنقطع الدولة الحديثة عن جذورها الميتافيزيقية ولا يبقى للسلطة الروحية وجود في حياة المجتمع السياسي الذي يصفه كانت بأنه جذوره من نفسه؛ فمحلَّ سيادة الملك المستندة إلى نظرية الحق الإلهي سوف تحلّ سيادة الأمة التي تجد سندها في نفسها أي في الحق الطبيعي المطلق الذي يُحِلّ الفرد لا محل الملك فحسب بل محلّ الله ويجعل سيادة الإرادة العامة التي تحدث عنها روسو بديلاً عن الإرادة الإلهية المطلقة. إن هذا الطور الأخير هو طور علمانية الدولة La Laicite de L’Etat (١) التي سوف تكرِّسها الثورة الفرنسية في إعلان ١٧٨٩ م والتي أقامها ميرابو في مناقشات الجمعية الوطنية على أساسٍ من الطبيعة المطلقة للوعي الفردي. وفي هذا الصدد يقول Gabriel Compayre إنه ((لا يوجد ظلّ للميتافيزيقيا في إعلان معتقد سياسي)) ، مدافعاً عن إعلان الحقوق ضدّ أولئك الذين كانوا يحتجّون على عقلانيته المطلقة أو طابعه المادي (٢) . وإذا كانت الفلسفة الحديثة، وعلى رأسها ديكارت، قد بذرت بذور الإيمان الجديد الذي أشرنا إليه والذي قاد إلى هذا التحوّل العميق في طبيعة الدولة، أي بذرة الوعي الفردي المطلق، في أرض خصبة صالحة للإنبات بحكم تطوّرها التاريخي فإن جان جاك روسو ومن بعده تلميذه سييس قد تعهّدا هذه البذرة بالرعاية وأعطياها ثمرتها السياسية الكاملة: فالأول حرّر الإرادة العامة من كل قانون أساسي بل من العقد الاجتماعي الذي هو مصدرها وجعلها مطلقة تستطيع فعل أي شيء، والثاني اعتبر الأمة كائناً مطلقاً لا يقع عليه أي إلزام وافترض أنها، بالنسبة إلى ذاتها، في حالة الطبيعة دائماً؛ وبهذا التعليم أثارا حركة عقلية عامة قادت إلى الثورة الفرنسية.

المبحث الثاني: الفرد والدولة:

المطلب الأول: ماهية الحرية الفردية في إعلان ١٧٨٩ م

<<  <  ج: ص:  >  >>