أما القياس فلأن المتقدمَ أولى بالأعمال لاعتناء العرب به وجعله في أول الكلام. ومما يقوّي مذهبهم أن يقولوا: قد وجدنا من كلام العرب أنه متى اجتمع طالبان وتأخر عنهما مطلوب وكل واحد منهما يطلبه من جهة المعنى فإن التأثير للمتقدم منهما.
دليل ذلك القَسَم والشرط إذا اجتمعا فإن العرب تبني الجواب على الأول منهما وتحذف جواب الثاني لدلالة جواب الأول عليه تقول:(إنْ قَامَ زيدٌ واللهِ يَقُمْ عمروٌ، واللَهِ إِنْ قَامَ زيدٌ ليقُوْمَنَّ عمروُ) ، فكذلك أن يكونَ الاختيار إعمال الأول". ( [٦٢] )
ودليل آخر أنه لا يجوز إلغاء (ظننت) إذا وقعت مبتدأة، نحو: ظننت زيدًا قائمًا، بخلاف ما إذا وقعت متوسطة أو متأخرة، نحو:(زيدٌ ظننت قائم، وزيدٌ قائمٌ ظننتُ) وكذلك لا يجوز إلغاء (كان) إذا وقعت مبتدأة، نحو:(كان زيدٌ قائما) بخلاف ما إذا كانت متوسطة، نحو:(زيدٌ كان قائمٌ) فدلّ على أن الابتداء له أثر في تقوية عمل الفعل.
واحتجّوا بأن إعمال الثاني يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر، والإضمار قبل الذكر لا يجوز في كلامهم. ( [٦٣] )
ودليل آخر" أنّا رأينا العربَ تراعي المتقدم في قولهم: (عندي ثلاثة ذكور من البط) ، و (عندي ثلاث من البط ذكور) ، فأتوا بالتاء مع ثلاثة لما تقدّم لفظ ذكور، وحذفوها لما تقدم لفظ البط، فدلّ ذلك على مراعاتهم المتقدم". ( [٦٤] )
" وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: الدليل على أنّ الاختيار إعمال الفعل الثاني النقل والقياس.
أما النقل فقد جاء كثيرًا، قال تعالى:{آتُوْنِيْ أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}[الكهف: ٩٦] ؛ فأعمل الفعل الثاني وهو أفرغ، ولو أعمل الفعل الأول لقال أفرغه عليه، وقال أيضًا {هَاؤُمُ اقْرَءُوْا كِتَابِيَهْ}[الحاقة:١٩] ؛ فأعمل الثاني وهو (اقرءوا) ، ولو أعمل الأول لقال: اقرءوه، وقال الفرزدق:( [٦٥] )