للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويكشف هذا الموقف للجرجاني عن إدراكه لأهمية الغموض في بنية النص الابداعي، فهو جوهره وأساسه. فالغموض هو الذي يثير الدهشة والاستفزاز للمتلقي، ويجعل من النص الابداعي نصاً ابداعياً. ومن هنا، فإن الجرجاني لا يعارض الوضوح والقرب في المعاني الأدبية شريطة أن لا يصل هذا الوضوح إلى حد السطحية والركاكة والضعف مما يبعد النص الابداعي عن جوهره وإثارته للمتلقي. فالنص الذي تتعدد وجوه التأويل فيه، ويستفز القارئ إلى بذل الجهد في المتابعة والتفكير هو النص الابداعي الأصيل. كما أن وضوح النص في ظاهره، وفي قراءة القارئ الأولية له لا يعني الوضوح السطحي، فقد يبدو القول التالي: (كالبدر أفرط في العلو) سهلاً وبسيطاً، بيد أن المتفحص لهذا التشبيه يخرج إلى معاني أخرى إضافية تحتاج إلى التفكير والدقة. يقول الجرجاني: "هذا- وليس إذا كان الكلام في غاية البيان وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح أغناك ذاك عن الفكرة إذا كان المعنى لطيفاً، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لا بد فيها من بناء ثان على أول، ورد تال إلى سابق. أفلست تحتاج في الوقوف على الغرض من قوله: "كالبدر أفرط منه ووجه المجاز في كونه دانياً شاسعاً وترقم ذلك في قلبك ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى وترد البصر من هذه إلى تلك وتنظر إليه كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله "شاسع" لأن الشسوع هو الشديد من البعد ثم قابله بما لا يشاكله من مراعاة التناهي في القرب فقال "جد قريب". فهذا هو الذي أردت بالحاجة إلى الفكر، وبأن المعنى لا يحصل لك إلا بعد انبعاث منك في طلبه واجتهاد في نيله" (٢١) .

<<  <  ج: ص:  >  >>