فمجال الغموض إذن عند عبد القاهر الجرجاني يكمن في المستوى الفني للعمل الابداعي المتمثل في ضروب البلاغة المختلفة مثل الكناية والمجاز والاستعارة والتشبيه ثم في الصورة والصياغة. يقول "قد أجمع الجميع على أن الكناية أبلغ من الإفصاح والتعريض أوقع من التصريح. وأن للاستعارة مزية وفضلاً. وأن المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة"(٢٢) . وهذا الفهم هو ما عبر عنه الجرجاني في موقع آخر من كتابه دلائل الإعجاز ليسميه بمعنى المعنى وهو المستوى الفني الذي يقع فيه الغموض. يقول:"وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن نقول المعنى ومعنى المعنى تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة وبمعنى المعنى أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"(٢٣) .
وقد استخدم الجرجاني ألفاظاً تعبر عن المستوى الفني للعمل الابداعي، وهي أقل سلبية في ظاهرها الخارجي من لفظة الغموض التي تعكس معنى سلبياً للوهلة الأولى. وهذا يشكل حرص عبد القادر الجرجاني، وإدراكه لأهمية الغموض بمرادفاته المختلفة في العمل الابداعي، ولا سيما في النصوص الشعرية.
ولذا فقد استعمل الجرجاني مصطلح الغرابة ليشير إلى الغموض الفني في العمل الابداعي. يقول:"والمعنى الجامع في سبب الغرابة أن يكون الشبه المقصود من الشيء مما لا ينزع إليه الخاطر، ولا يقع في الوهم عند بديهة النظر إلى نظيره الذي يشبه بل بعد تثبت وتذكر وفكر للنفس في الصور التي تعرفها وتحريك الوهم في استعراض ذلك واستحضار ما غاب منه"(٢٤) .