ولعل هذا الاستفزاز للمتلقي لا يتم إلا من خلال غموض النص الابداعي، فالغموض هو جوهر الشعر وأساسه، كما أن الغموض ناشئ عن التنافر بين أجزاء الصور والتشبيهات والاستعارات، وهذا التنافر والتباعد يحدث اهتزازاً في مخيلة المتلقي وفكره للصورة الأولى للكلمات والتعابير قبل دخولها صناعة الشعر وابداعه، مما يدفع المتلقي إلى دائرة التأويل، وتعدد الاحتمالات. يقول الجرجاني:"وهكذا إذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد، كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان، ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتألف للنافر من المسرة والمؤلف لأطراف البهجة، انك ترى بها الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، وترى الصورة الواحدة في السماء والأرض، وفي خلقة الإنسان، وخلال الروض، وهكذا طرائف تنثال عليك إذا فصلت هذه الجملة، وتتبعت هذه اللمحة، ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله:
بين الرياض على حمر اليواقيت
ولا زوردية تزهو بزرقتها
أوائل النار في أطراف كبريت
كأنها فوق قامات ضعفن بها
أغرب وأعجب، وأحق بالولوع وأجذر، من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق، لأنه إذا ذاك مشبه لنبات غض يرف وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف بلهب نار مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف، ومبنى الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشغف منها أجدر، فسواء في إثارة التعجب، وإخراجك إلى روعة المستغرب، وجودك في مكان ليس من أمكنته" (٤٩) .