من ذلك ما ذكر ( [٥٣] ) أن أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي وزير معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي ( [٥٤] ) كان قبل اتصاله بمعز الدولة وتقلده منصب الوزارة يعاني من قلة ذات اليد وشدة الفقر وضيق الحال، وكان يشكو رمدًا في عينيه لا يفارقه، وسافر في بعض الأيام مع رفيق له أديب من أهل الأسفار والتجوال ( [٥٥] ) ، ولكنه لقي في سفره هذا مشقة ونصبا، فلا زاد معه ولا مال، ونزل مع رفيقه في بعض الأماكن واشتهى اللحم، فلم يجد ثمنه، فأنشد ارتجالاً ورفيقه يسمع:
فهذا العيشُ مالا خيرَ فيهِ
ألا مَوْتٌ يُباَعُ فأشْتَريهِ
يُخلِّصُني من العيشِ الكريهِ
ألا مَوْتٌ لذيذُ الطعمِ يأتِي
ودِدْتُ لو أنَّني مما يليهِ
إذا أبصَرْتُ قبرًا من بعيدٍ
تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ
ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍّ
فتأثر رفيقه بالأبيات ورثى لحاله، ورق له، فاشترى له بدرهم لحمًا، وأعده وقدمه إليه، وتفرقا.
ثم تتابعت الأيام، وتغيرت الأحوال، وحسنت حال المهلبي وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة البويهي، وضاقت الحال برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم، وحقق له رغبته، وآل به الأمر إلى أن جلس على بساط الفقر والفاقة، وبلغه تولي المهلبي الوزارة، فشد الرحال وقصده في بغداد، فلما بلغه كتب إليه رُقْعَة تتضمن أبياتًا، منها:
مَقَالَ مُذَكِّرٍ ما قد نسيهِ
ألا قُلْ للوزير فَدتْه نَفْسِي
(ألا مَوْتٌ يباعُ فأشتريهِ)
أتذكرُ إذ تقول لضنْكِ عَيْشٍ:
فلما قرأ المهلبي الأبيات تذكر صحبة رفيقه، وفضله عليه، وهزته أريحية الكرم ورعاية حق الصحبة، وردّ الفضل لأهله والمعروف لمستحقيه.
إنّ الكرامَ إذا ما أَسهَلُوا ذَكَروا مَنْ كان يألفُهمْ في المنزلِ الخَشِنِ ( [٥٦] )