وبدلاً من أن يكون النقد “ تقويماً وتأويلاً ” أصبح بحوثاً في التاريخ وأحوال النفس الإنسانية، وعلاقات المجتمع، وقراءات إسقاطية للأساطير والخرافات وترميزاً للواضح الجليّ، وتلاعباً بالدوال، ورسوماً هندسية، وإحصاءات حسابية، وقراءات شارحة ومتيالغة بحجة أن النقد فلسفة وليس لعبة يتوسط فيها الناقد بين النص والمتلقي.
المثاقفة الراشدة نقدية أو غير نقدية تحتاج أولاً إلى أسس متينة تقوم عليها، تتمثل في الإيمان اليقيني بخصوصية الثقافة العربية الإسلامية، وأنها نتاج مرجعية مميزة، فالتفريط في هذه الخصوصية، أو التهاون في ثوابت هذه المرجعية الخالدة خيانة لله وللأمة.
لكن هذا الإيمان اليقيني لا يتحقق بالوعود وكتابة الاستراتيجيات على الورق وإنما يتحقق ببناء المؤسسات الثقافية وتشييد مراكز البحث وبناء العقول الواعية، والمراجعة الدؤوبة والنقد الذاتي والتثقيف المتواصل للمناهج والمعرفة.
لقد عجزت المؤسسات الثقافية في الوطن العربي عن إيجاد “ الكتلة الحرجة ” من العقول الحية التي تؤمن بأن الثقافة والمثاقفة غربلة دائمة، وتهذيب متجدد، فنشأت أجيال من “ المثقفين الموظفين ” تتخذ مسارين متعاكسين “ هروب من الثقافة العربية ” و “ هروب إلى الثقافة العربية ” وكلا المسارين نتاج صناعة ثقافة رديئة.
المثاقفة الراشدة إيمان بأن الحكمة ضالة المؤمن، ولكن الحكمة إبرة في كومة من القش تحتاج إلى صبر ومهارة في آن واحد. وهذا هو المنهج الذي نبحث عنه منذ أن كتب شكيب أرسلان قبل مائة عام لماذا تقدم الغرب، وتخلف المسلمون، وها نحن نعيد السؤال مرة أخرى بعد قرن من الزمان، فأين المنهج، وكيف يتحقق؟ هذا هو السؤال.
ولو أني جُعلت أميرَ جيشٍ لما قاتلتُ إلاّ بالسؤالِ
فإنّ الناس ينهزمون عنه وقد ثبتوا لأطراف العوالي ( [٥٧] )