فكر الأمة يشكل منظومة من الوعي في التصور والممارسة تنبثق من رؤية خاصة للكون والإنسان والحياة. ولهذا فإن نزع الأفكار من سياقاتها التي نبتت فيها نظر للشيء من غير جهته؛ بمقتضاه يغدو تفكيك تلك الأفكار وعرضها تحت مجهر النقد أمراً يفتقر إلى أبجديات المنهج العلمي الصحيح، ومن ثم تكون الأحكام المبنية على هذا النظر - وإن وقفت على شيء وأدركت أبعاده - مفتقرة إلى رؤية شمولية تتتبّع خيوط الأفكار كما نمت في رؤية الأمة التي نسجتها في ظلال تصور كوني خاص.
وعلم النفس بوصفه منظومة من الوعي بالسلوك، لا يصح النظر إليه ومحاكمته بمعزل عن سياقه الفكري والتاريخي والاجتماعي، الذي استمد منه رؤيته، وتحددت بموجبه أنساقه.
لقد نشأ هذا العلم في عصر التنوير في أوروبا معتمداً على ثلاثة علوم هي:
١ - الفيزياء.
٢ - الفسيولوجيا.
٣ - الفلسفة العقلية ( [٥٨] ) .
وهذه العلوم الثلاثة تشكل لحمة الفكر المادي وسداه في الخطاب الغربي الحديث في القرن التاسع عشر الميلادي.
في الفيزياء ظهرت قوانين الحركة الآلية عند “ جاليلو ” و “ نيوتن ” فأكدا ما ذهب إليه “ كوبرنيقوس ” ونقضا نظرية “ بطليموس ” التي كانت تدين بها الكنيسة وتقول: إن الأرض هي مركز الكون، وإن الأجرام السماوية تدور حول هذا المركز ( [٥٩] ) . جاء “ كوبرنيقوس ” فاكتشف في كتابه “ حركات الأجرام السماوية ” أن الأرض هي التي تدور حول الأجرام، وأيد جاليلو بتلسكوبه الذي صنعه ذلك عملياً، وعاد عن ذلك تحت تعذيب الكنسية، وجاء “ نيوتن ” بقانون الجاذبية وأيده بقانون رياضي مطرد ( [٦٠] ) .
وجوهر ما ذهب إليه “ جاليلو ” و “ نيوتن ” ((أن الكون آلة ضخمة)) ( [٦١] ) وفسر “ نيوتن ” جميع ما يحدث في الكون على أساسٍ من حركة أجزاء المادة بنظريته التي تقول: ((إنه من الممكن تفسير ظواهر الطبيعة بربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل قوى خارجية عنها)) ( [٦٢] ) أي أن الكون شبيه بالآلة في حركته.