جاء ديكارت وقد أثبت علم الآليات أن حركة المادة تخضع لقانون معلوم، لكن هذا لم يعجب الفلاسفة، ولم ينكروه في آن واحد، فسعوا إلى التوفيق بين الرؤيتين، فذهبوا إلى أن العقل والجسم يقعان في خطين متوازيين، وإذا كان وقع لأحدهما حادث، ووقع لصاحبه حادث آخر فإن هذا لا يعني أن الحادث العقلي ناتج عن حادث جسمي، لأن هذا معناه تبادل التأثير بينهما، فمرد هذا التأثير هو العناية الإلهية تلك العناية التي تجعل اليد تمتد إلى الطعام عند الإحساس بالجوع وهذه النظرية المعروفة عند تلاميذ ديكارت بنظرية الموازاة ( [٧٥] ) .
وجاء العلم في القرن التاسع عشر فرفض هذه الفكرة التي ترد حركة الجسم والعقل إلى العناية الإلهية فهذه تعاليم الكنيسة التي لا يقوم العلم إلا على أنقاضها، فقال العلماء والفلاسفة إن العقل ((نوع مهذب راق من المادة، يمكن تصوره باعتباره هالة من الإشعاع تحيط بالدماغ، كتلك الهالة من الضياء تشع عن رؤوس القديسين، ووظيفة هذه الهالة هي أن تعكس الأحداث التي تقع في الدماغ)) ( [٧٦] ) .
وهذا المنهج العقلي الذي دعا إليه “ ديكارت ”، لتطبيقه على مناحي الفكر والحياة ما عدا الدين، ذهب إليه “ روجر بيكون ” صاحب المنهج التجريبي - ففصل بين ما هو بشري، وما هو إلهي، لكن هذا الخوف مما هو إلهي تلاشى على يد “ سبينوزا ” واضع أسس مدرسة النقد التاريخي الداعية إلى إخضاع الكتب المقدسة للبحث العقلي، وكأنها تراث بشري ( [٧٧] ) . وعزز هذا التوجه الجديد “ جان لوك ” القائل:((من استبعد العقل ليفسح للوحي مجالاً فقد أطفأ نور عينيه كلتيهما وكان مثله كمثل من يقنع إنساناً بأن يفقأ عينيه، ويستعيض عنهما بنور خافت يتلقاه بواسطة المرقب من نجم سحيق)) ( [٧٨] ) .