كذلك، شاهد مالك كيف أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم تستباح حرماتها، ويقتل العباسيون فيها أبناء المهاجرين والأنصار، ويستذلونهم في سبيل إقرار الأمن لمصلحة حكمهم وولايتهم.
وشاهد مالك خروج (محمد) النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب في المدينة على أبي جعفر سنة مائة وخمسة وأربعين، وما نتج عن ذلك من تضييق على أهل المدينة جيران رسول الله-صلى الله عليه وسلم- واضطهاد لآل علي بن أبي طالب وتقييدهم وجلبهم إلى العراق.
وبعد ذلك وفي السنة نفسها خرج إبراهيم أخو النفس الزكية في البصرة على أبي جعفر وكانت نهايته وأصحابه الهزيمة والقتل.
وقبل ذلك خرج زيد بن علي بن أبي طالب، وهزم وقتل سنه ٢٢١هـ، وقتل من معه وخرج بعده ابنه يحيى وهزم وقتل من معه إلا من هرب فنجا.
وفي سنه مائة وثلاثين استولى أبو حمزة الخارجي على المدينة وقتل كثيرا من أهلها، ولعل مالكا أدرك مبكرا أن الخروج يرهق الأمه ويشتت شملها ويفرق صفها، وليس من السهل الميسور على من استولى على السلطة بالقوة أن يفرط بكرسي السلطة أو يفرط في العض عليه وتوريثه لذريته.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأمة ومصالحها والدعوة ومقاصدها ستضيع بين متطلع إلى السلطة مهما كان مقصده من الوصول إليها، ومستول عليها متشبث بها، ولا يدرى هل من سيصل إليها سيكون مثل المستولي عليها أو أسوأ حالا.
وإن مواقف مالك كما سيأتي لتدل على أن الواقع الذي سمع مالك بعضا من أبنائه أو شاهده قد رسخ لديه قاعدة فكرية ما أنفكت تترسخ لديه، وهي أن أول ما ينبغي أن يعنى به ويسعى إليه هو الاستقرار السياسي في الدولة، والأمن للأمة والنصح للأئمة، وذلك لما للعنف والصراعات من أثر سيء وثمر نكد على الأمة والدولة وعلى الدنيا والدعوة.