.. فمما ورد من ذلك أن أبا جعفر استدعى مالكا وأبا حنيفة وابن أبي ذئب، فسألهم: كيف ترون هذا الأمر الذي أعطاني الله، هل أنا لذلك أهل فقال ابن أبي ذئب:"إن الخلافة تكون بإجماع أهل التقوى عليها، والعون لمن وليها، وأنت وأعوانك كنتم خارجين من التوفيق عالين على الخلق". وكان مما قال أبو حنيفة:"إذا أنت نصحت لنفسك علمت أن ك لم ترد الله باجتماعنا، إن ما أردت أن تعلم العامة أن انقول فيك ما تهواه مخافة سيفك وحبسك، ولقد وليت الخلافة، وما اجتمع عليك نفسان من أهل التقوى، والخلافة تكون عن إجماع المسلمين ومشورتهم". وكان مما قال مالك:"لو يرك الله أهلا لذلك ما قدر لك ملك أمر الأمة، وأزال عنهم من بعد من نبيهم، وقرب هذا الأمر من أهل بيته; أعانك الله على ما ولاك وألهمك الشكر على ما خولك، وأعانك على من استرعاك (٢٧) .
ومن المستبعد جدا في نظري أن لا يكون مالك مسل ما بصدق مقالة ابن أبي ذئب ومقالة أبي حنيفة، لكنه لم يكن قاسيا في الخطاب مثلهما، وهو في نظري معذور في ذلك الموقف السياسي، فلعله رأى نفسه بين مفسدتين: مفسدة استعداء الخليفة، ومفسدة مدحه على الرغم من ظلمه، وكلاهما شر " إذ في كليهما ضرر، فلعله رأى مدح أبي جعفر أهون شرا وأخف ضررا، وذلك ليبقي على نفسه، لا لنفسه ولكن للدين وللأمة فلو حبسه أبو جعفر أو قتله لكان على غيره أجرأ، فيتضرر الدين وتتضرر الأمة، ومالك حريص على أن يبقى أمانا للأمة، فاختار أهون الشرين وأخف الضررين في هذا الموقف.
ولكن لا يعني تلطفه في مخاطبة ولي الأمر الضعف في بذل النصيحة له، ويدل على ذلك أقول رويت عنه، فمن ذلك:(٢٨) . قوله:"لا ينبغي المقام بأرض يعمل فيها بغير الحق، والسب للسلف الصالح، وأرض الله واسعة، ولقد أنعم الله على عبد أدرك حقا فعمل به".
وقوله:"وينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله، فإن عصوا كانوا شهودا على من عصاه".