للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد حصل ما رآه مالك وذلك أنه لما خرج محمد حاصر جيش أبي جعفر المدينة وأحكم الحصار عليها، فخطب محمد في أتباعه وأنصاره، فقال: يا أيها الناس، إن هذا الرجل- يقصد عيسى بن موسى قائد جيش أبي حعفر-قد قرب منكم في عدد وعده، وقد حل لتكم من بيعتي، فمن أحب المقام فليقم، ومن أحب الانصراف فلينصرف فتسل لوا حتى بقي في شرذمة ليست بالكثيرة بعد أن كان عدد من خرجوا معه أول الأمر يقارب مائة ألف (٥٩) من أهل المدينة وما حولها.

وقد أكد الواقع اجتهاد مالك فقد فشل الخروج وقضي على الخارجين، وقتل محمد النفس الزكية وأذل أهل المدينة، فكان ذلك دليلا على سعة أفقه، وبعد نظره، واستحضاره لمآلات الأفعال وعواقب الأمور وهو يجتهد في ضوء ثوابت منهجه السياسي ليحدد مواقفه العملية.

وإن مما يدل على أنه كان يرى طاعة ائمة الجور للضرورة، وعدم الخروج لرجحان مفسدة الخروج على مصلحته ما ذكر في المدونة الكبرى: قال مالك: لا أرى بأسا أن يقاتل الروم مع هؤلاء الولاة. قال ابن القاسم وكان فيما بلغني عنه ولم أسمع منه أنه كان يكره قبل ذلك جهاد الروم مع هؤلاء-الولاة-حتى لما صنعت الروم ما صنعت قال: لا بأس بجهادهم.

وقال ابن القاسم: وأما أنا فقد ادركته وهو يقول: لا بأس بجهادهم مع هؤلاء الولاة ... لو ترك هذا لكان ضررا على أهل الإسلام (٦٠) .

... فهو يكره ظلم الولاة لكنه لا يرى الخروج عليهم، ولعل كرهه للجهاد تحت رايتهم كان أول الأمرين منه، ثم بعد ذلك رأى رجحان مصلحة الاسلام والأمة في القتال تحت رايتهم، وهذا ما ذكره فقهاء المالكة فذكروا أنه يقاتل العدو مع كل بر وفاجر (٦١) ، وعللوا ذلك بأن في ترك الجهاد معهم ضرر على المسلمين (٦٢) .

وذكر اللخمي حجة مالك في كرهه القتال تحت راية ولاة الجور، فقال:"وروي عن مالك: لا يجب الخروج معهم لكيلا يعينهم على ما يقصدون من الدماء" (٦٣) .

<<  <  ج: ص:  >  >>