لحظنا في الصفحات السابقة أن للصحراء أثرًا واضحًا في توجيه موضوعات الشعر التي عبرت عن بيئة الصحراء، وما زاوله سكانها من نشاط وأعمال، ووصلت إلينا حاملة طابع الصحراء في شكلها ومضمونها؛ فالألفاظ التي تضمنتها الموضوعات المنبثقة عن الصحراء غزيرة تمثل معجمًا ضخمًا، وما يندرج تحتها من معانٍ أضاف إلى الشعر ثروة وامتدادًا؛ فوصف الرحلة عبر الصحراء، ووصف طبيعتها وسهولها وحزونها وحيوانها ونباتها، وما يتصل بذلك من نشاط تضمن معاني كثيرة، أغنت الشعر العربي، وزودته بمضامين وأفكار جديدة، ما كان ليظفر بها لو وجد في بيئة أخرى؛ فجميع الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين الذين أتيح لهم أن يعيشوا في الصحراء اقتصروا في معاني شعرهم على ما أوحت به إليهم بيئتها وأجواؤها، فحينما نقرأ شعر امرئ القيس، أو أوس بن حجر، أو زهير بن أبي سلمى نلحظ أن طوابع الصحراء ماثلة في شعرهم، والمعاني التي طرقوها تتجسد فيها إيحاءات الصحراء؛ فالشعر العربي، وشعر كل أمة ابن بيئته، ولا يمكن أن يحمل مضامين بيئة أخرى غريبة عنه، إلا إذا انسلخ الشاعر عن جلدته، واستعار جلدة أخرى، وحتى الموضوعات التقليدية من مدح وغزل، وهجاء وعتاب واعتذار يستحيل أن تتنصّل عن تأثير الصحراء؛ ولذلك نجد بعض الدارسين اتجهوا في بحوثهم ودراساتهم إلى استنباط حياة العرب من شعرهم، وكان نجاحهم في هذا الاتجاه بارزًا؛ لأنهم وصلوا إلى معلومات ثمينة نادرة عن حياة العرب في صحرائهم. ولعل في هذا ردًا على مقولة إن الشعر الجاهلي أكثره موضوع، وكيف يتسنى أن يكون موضوعًا أو منحولاً وهو يمثل بيئتهم الصحراوية في جزيرة العرب بأماكنها ومواضعها ومسالكها وحيواناتها ونباتاتها أصدق تمثيل؟ وكيف يتاح لواضع هذا الشعر أن يتمثل هذه البيئة كلها في شعر ينظمه ثم ينحله الجاهليين؟ وتبين لي من خلال الشواهد الشعرية التي أثبتها في البحث صدق الشاعر الجاهلي ودقته في تحديد الأماكن وصحة