للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحفل الشعر العربي بالصور الفنية التي أوحت بها الصحراء، واستقاها الشعراء من بيئتها، وطبيعة الحياة فيها، وكيف يتسنى لشاعر عاش حياته كلها في الصحراء أن يستعير صورًا من خارج البيئة التي خبرها وأمضى ما تصرم من حياته في ربوعها؟! بيئة خبر دروبها وسهولها وحزونها وقيعانها وجبالها ووهادها وأوديتها ورياضها. ولذلك فإن الشعر الذي نصفه بالصحراوي من الطبيعي أن ينتزع صوره من تشبيهات واستعارات من الصحراء، فحينما نأتي إلى وصف الفرس أو الناقة في شعر الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين نجدهم لا يخرجون في تصويرهم عما عهد في بيئتهم وشاهدوه وهم يتنقلون في فضاء الصحراء، فامرؤ القيس حينما أراد أن يجسد صلابة فرسه وسرعة كره على العدو وإدباره عنه حيث لا مجال للكر لم يجد ما يشبهه به سوى قطعة صلبة من الصخر دحرجها سيل قوي من مكان مرتفع، وذلك في قوله:

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مدبرٍ معًا **كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ من عَلِ (١)

وصورة التشبيه انتزعها من مشاهدته لما يحدث في الصحراء حينما تتدافع حجارة الجبل، وتنصب في حركة سريعة متتابعة لها دويٌّ وصوت، والتشبيه غير دقيق؛ لأن حركة الكر والفر والإقبال والإدبار لا تطابق كل المطابقة تهدي الحجر من مكانٍ عالٍ.

وفي قوله:

له أيطلا ظبيٍ وسَاقَا نَعَامةٍ ... ** وإرخاءُ سِرْحَانٍ وتَقْرِيبُ تَتْفُلِ (٢)

شبه خاصرتي فرسه في الضمور بخاصرتي ظبي، وساقيها بساقيْ نعامة في الصلابة والقصر وطول الفخذين، وهي صفات محمودة في الفرس، وشبه عدوه بإرخاء الذئب (٣) وتقريب الثعلب (٤) ، والمشبه به منتزع من حيوانات صحراوية شاهدها امرؤ القيس في جزيرة العرب كثيرًا.


(١) ديوانه: ١٩.
(٢) ديوانه: ٢١.
(٣) الإرخاء: شدة العدو، أو عدو فوق التقريب. القاموس (رخو) .
(٤) التقريب: ضرب من العدو، أو أن يرفع يديه معًا ويضعهما معًا. القاموس (قرب) .

<<  <  ج: ص:  >  >>