مسح بيديه وجهه وبدأ يخفف سرعة خطواته، تناهى إلى سمعه صوت صغيرة وهو يقول له في اضطراب وخوف:
لقد عادوا للبحث عنك، كانوا هناك في بيتنا بأحذيتهم السميكة، ماذا ستفعل يا أبي؟ جاء سؤال الصغير حاداً أدماه من الداخل:
جميعهم في انتظارك، أمي قلقة، وأخوتي خائفون.
تلقى في ذهول تلك الإشارات المشؤومة، أمسك بيد الصغير، ضمه إليه وساروا في طريق العودة وهو يهمس قائلاً: لا تخف (٦٩) » .
فالأصوات التي تأتيه من هنا وهناك، فتشعره بالمطاردة والخوف لم تكن إلا من عقله الباطني إذ يحس بها نتيجة الضغوط النفسية في ظروف سياسية قاهرة، أقصته عن الأهل وجعلته يعيش في مغترب ناءٍ بعيد، فكأن الكاتبة قد امتزجت بالشخصية وترجمت عما في أعماقها من مشاعر، بل سبقت عالم النفس في الحديث عن أغوارها، وقد جاء هذا العرض المركز للاشعور موفقاً في القصة، إذ جعلنا ننفعل مع الشخصية، نتألم، ونحقد على الطغاة الظالمين، وبذلك يكون للفن أثره في القراء.
ويقول أ. د " بهجت الحديثي " معلقاً على هذه القصة، متحدثاً عن الانطباع الذي خلفته في نفسه: «التمتع بالجمال الفني ... هو غاية قائمة بذاتها، ورؤية فيها الشيء الكثير من الإبداع في إعادة تشكيل الصور الفنية، والتحرر من كل القيود التي تكبل المبدع والمتلقي حيث أن الفن أوسع من أن يعرف أو يصب في قوالب جاهزة ... وهذه وقفة سريعة إلا أنها تسجل انطباعات وملاحظات، وربما وجهة نظر كونتها كقارئ ...
«قصة " لا تكن جلاداً " هي بيت القصيدة من حيث أسلوبها وروعة تصويرها ... لقد نقلتني تلك القصة بعيداً وأنا أسبح في بحر خيالها، وهي تحكي حالة إنسانية، وتنطوي على غايات نبيلة، وتفتح آفاقاً رحبة أمام القارئ ليطلّ منها على عوالمنا البائسة الخاوية على عروشها إلا من القهر والتسلط واللاإنسانية، وما فيها من جنون وعنجهية وسادية إن صح التعبير ... أما لغتها فلا أجمل منها ... » (٧٠) .