وكذلك الجهاد في سبيل الله قد جاء تشريعه على مراحل, واستقر الحكم على المرحلة الأخيرة وهي وجوب قتال الكفار كافة ابتداءً وطلباً, ولكن هذا منوط بالقدرة عليه والتمكن منه, فلا يجوز إيقاف الجهاد وتعطيله بدعوى مشابهة الحال للعهد المكي الذي كان الجهاد فيه ممنوعا كما قال تعالى:(ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشيةالله أوأشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال..الآية ((١٩) بل يجب على المسلمين الاستعداد وتكوين القدرة على الجهاد التي يحصل بها النكاية في العدو وحماية المسلمين من شره, وتتحقق بها أهداف الجهاد وغاياته.
وبهذا يتضح الفرق بين المرحلية في التشريع وسير الدعوة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وبين المرحلية في اكتساب القدرة والاستعداد للجهاد بما يستطاع من عدته, ومن ثم البدء بالمواجهة وتغيير المنكر.
٥ ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض المواقف, وعقد بعض المعاهدات بموجب ما أوحى الله إليه:
الدارس للسيرة النبوية يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمرَ من الله باتخاذ موقف محدد في بعض الحالات, وقد أُعْلم صلى الله عليه وسلم بأن مآل هذا سيكون خيرا على المسلمين في حين أن ظاهره غير ذلك, مثل: قبوله صلى الله عليه وسلم بعض الشروط في صلح الحديبية التي ظاهرها الحيف على المسلمين (٢٠) , ولذلك أنكر بعض الصحابة القبول بها وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغربين ومستفسرين, فلما علموا أنه قد ألهم فيها وحيا من الله رضوا, ثم تحقق بعد الصلح والانصراف من الحديبية أن هذا الأمر كان فتحا عظيما بتقدير الله سبحانه وتعالى حيث نزلت سورة الفتح وسمت صلح الحديبية فتحا مبينا, ثم صار الأمر أن تنازل المشركون عن شرطهم الظالم حيث انقلب ضد مصلحتهم وجاءوا إلى رسول الله يطلبون موافقته على ذلك (٢١) .