وانتقت الدراسة الأستاذ أحمد جمال، رحمه الله، كنموذج يتمحور حوله البحث، لما يمثّله نتاجه من سمات تجسد بعض ملامح هذه الظاهرة، حيث استهلّ حياته الأدبية شاعراً في ديوانه الطّلائع، ثم عزف عن قول الشعر، وعكف على الدراسات الدينية وما يتشعّب منها من اتجاهات، كالتفسير، والسيرة، النبوية (على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم) ، والقضايا الفكرية، والتربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتعيّن تبعاً لذلك استعراض البواعث التي حدت بالشعراء للانتقال من الشعر، ليتحولوا إلى عالم الفكر والدراسات، دون عودة إلى نبع الشعر. كما اقتضى ذلك وقفة خاصة، لاستعراض طبيعة الشعر، وتبيان خصائصه المميزة كعملية خلق لغوي ترتكز على الخيال كعنصر فعّال في توليد الصور، وبلورة الأحاسيس، والمشاعر، وتحديد الفوارق بينه وبين النثر الذي يقوم على الوضوح، والمباشرة، ومحاولة الوصول إلى الفكرة، بعيداً عن الغموض، والاستغراق في الخيال، معتمدين في ذلك على آراء وأقوال أبرز النقاد من مختلف العصور الأدبية، قديمها وحديثها، انتهاء بآراء النقاد المعاصرين.
وإذا كان احمد جمال نفسه يذهب في تعليله لهجر الشعر، إلي عالم النثر، بعدم طاقته على الانحباس لنظم بيت من الشعر، بسبب ازدحام الحياة بأسباب هذا الانصراف عن نظم القوافي، وتصيد كلمات القافية الواحدة، ومراقبة الوزن ... بما يشبه المخاض كما سيتضح فيما بعد، فان البحث يتجاوز هذا التعليل دون ان يغفله إلى رؤية نقدية تشمل المباينة بين لغة الشعر ولغة النثر والفوارق الوظيفية والتاثيرية لكل منهما بما يستدعي توظيف الخيال في الأول والحرص على المباشرة والوضوح في الثاني.