والعقل الشاهِدَيْنِ على أنَّ لله تعالى صفةَ الكلام, كما قدْ بيَّناه فيما مضى.
لكنَّهم أبَوُا الإِقرار بأنَّ كلامَ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ بأدهى ممَّا سبَقَ من الباطل, فقالوا: نُثْبِتُ أنَّ الله متكلمٌ بكلامٍ قائمٍ في غيرهِ، فكلَّم الله تعالى موسى بكلامٍ مَخَلوقٍ قائِمٍ بالشَّجَرة، لا بهِ تعالى، فنحن نزَّهناه عن قيام الحوادث بهِ.
قُلْنا: جعلتُمُ الكلامَ إذاً صفةً للمَحَلِّ الذي قامَ به، وهو على قولِكم الشَّجَرةُ، فكانت الشجرةُ بهذا هي القائلةُ لمُوسى:{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فانتفى حينئذ الفرقُ بين قولِ الشَّجرةِ وقول فرعونَ اللَّعين:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}؛ لأنَّ كلامَ الشجرةِ صفَتُها لا صفةُ الله، وكلامَ فرعونَ صفتُهُ، وكلٌّ ادَّعى الربوبيَّة، فلم يكن موسى إذاً محِقّاً في إنكارهِ قولَ فرعونَ وقبولهِ قولَ الشجرةِ.
سُبحان الله! كم تجُرُّ البدعُ على أهلِها من المَحاذير؟
تأمَّل رحِمَكَ الله لهذا الكُفْرَ الصُّراح، الَّذي أوقعَ أهلَه فيه الابتداعُ المُشِينُ، وعدَمُ الرِّضا والتَّسليم لحَقائق التَّنزيلِ، واستبدالُ الوحي الشريفِ بزُبالاتِ الأذْهانِ التي تُصَرِّفها الأهواءُ كيف شاءَت.
ولقد كانتْ هذه الحجَّةُ العَقْليَّة ممَّا احتَجَّ به الإِمامُ أحمدُ رحمه الله على الجَهْميةِ المعتزلةِ حين ناظرَهم بحضْرَة المعتصِم، قال رحمه الله:
"وهذه قصَّةُ موسى، قال الله في كتابهِ حكاهُ عن نفسهِ:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} فأثبتَ الله الكلامَ لموسى كرامةً منه لموسى، ثمَّ قالَ بعدَ كلامهِ له {تَكْلِيمًا} تأكيداً للكلامِ، قالَ الله تعالى: يَا مُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ