للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والذينَ قالوا باللَّفظ تدَرَّجوا به إلى القَوْلِ بخَلْقِ القرآنِ، وخافوا أهلَ السُّنَّةِ في ذلك الزَّمانِ من التَّصْريحِ بخَلْقِ القرآن، فأدْرَجوهُ في هذا القول ذي اللَّبْس، لِئَلَّا يُعَدّوا في زُمْرَةِ جَهِمٍ الذين هم شياطينُ الإِنس يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُروراً، فذكَروا هذا اللفظَ وأرادوا به أنَّ القرآنَ بلفْظِنا مخلوقٌ، فلذلك سَمَّاهُم أحمدُ رحمه الله جَهْميَّةً، وحُكيَ عنه أيضاً أنه قال: اللَّفظيةُ شَرٌّ من الجَهْميةِ" (٣٢).

قلتُ: صرّحَتْ نصوصُ الإِمام أحمد السابقةُ بتجهيم اللفظيةِ، لأجْل أنَّهم يعدّون القرآنَ العربيُّ، المَسموعَ المقروءَ المَلفوظَ، المؤلَّفَ من الحُروفِ والكلماتِ، والسُّوِر والآياتِ، مخلوقاً، وقدْ بيَّنَ أحمدُ رحمه الله ذلكَ بقولهِ: "يزعُمُون أنَّ جبريلَ، إنَّما جاءَ بشيءٍ مخلوقٍ" وهذا هو الفَصْلُ في مُرادِ أحمدَ بتجهيم اللَّفظيةِ.

ولَمْ يُجَهِّم الإِمامُ أحمد مَن أرادَ باللفظ فِعْلَ القارئِ وصوتَه الذي هو مخلوقٌ، ولِذا أبانَ عن ذلكَ بقولِهِ الذي رَواه عنه ابنُه عبد الله: "كلّ مَن يَقْصِدُ إلى القرآن بلفظٍ، أو غيرِ ذلك، يُريد به مخلوق، فهو جَهميّ" وأبيَنُ منه قولُه: "مَن قالَ: لَفْظي بالقرآنِ مخلوق، يريد به القرآنَ، فهو كافرٌ" (٣٣) فاحتَرَز بقوله: "يريدُ به القرآنَ" عن تكفير مَن قال: "لفظي بالقرآن مخلوقٌ"

ويُريدُ بهِ حركتَهُ وصوتَه به، لا نفسَ الكلام الملفوظِ المقروءِ، مع أنَّ إطلاقَ هذا اللفظِ فيه إيهامُ القَوْلِ بخَلْقِ الملفوظِ الذي هو كلامُ الله، فوجَب


(٣٢) "عقيدة السلف" فقرة (١٦).
(٣٣) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: ٢٦٦ و"الاعتقاد" ص: ١١٠ عن عبد الله، وإسناده صحيح.

<<  <   >  >>