ولقد كانَ رحمه الله إمامَ أهلِ السُّنَّة ورأسَ أهل الحديث بعدَ أحمد ابن حنبل، فإنَّه كانَ على أثرهِ وطريقتهِ، ما حادَ عنه ولا زادَ، ومَن تأمَّل كتابَ "التوحيد" من "الصحيح" و "خلق أفعال العباد" قامَت له الحُجَّةُ على صحَّة ما قُلْنا.
ولكنه رحمه الله لمَّا آتاه الله تعالى من سَعَةِ العلمِ والمعرفةِ ما آتاه مِمَّا فاقَ بهِ الأقرانَ، وصارَ المشارَ إليه بالبنانِ، حَمَل عليه بعضُ أقرانِه بسبَب الحسَدِ المَمْقوتِ، فحمَّلوا كلامَه ما لا يَحْتَمِلُ، وادَّعوا عليه إطلاق الفولِ:(ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) وأشاعوا ذلك وأذاعوهُ في نَيْسابور وغيرِها، لِيُنَفَّرَ عنه وعن الانتفاعِ به.
وكانَ حامِلُ رايةِ المُنفِّرينَ عنه الإِمامَ الحافظَ محمَّدَ بن يحيى الذُّهْليَّ، وكانَ مِنْ ثقاتِ المحدِّثين وحُفَّاظِهم، أثنى عليه الأئمَّةُ وعدّلوه وارتضَوْه، وكانَ صاحِبَ سُنَّةٍ مُتَّبِعاً، رحمه الله، إلاَّ أنَّه وقَعَ في نفسهِ على البخاري، وزُوَّرَتْ إليه المَقالةُ عَليه في مسألة اللَّفظ، فشدَّدَ على البخاري بسَبَبِها، مع أنَّه ارتضاه أوَّلَ الأمر.
قالَ الحافظ أبو حامد الأعمَشيُّ (وكان ثِقَةً ثَبْتاً): رأيتُ محمَّدَ بن إسماعيل البُخاريَّ في جنازةِ أبي عثمان سعيد بن مَرْوان، ومحمَّدُ بن يحيى يسألُهُ عن الأسامِي والكُنى وعلل الحديثِ، ويَمُرُّ فيه محمدُ بن إسماعيل مثلَ السَّهْم كأنَّه يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فما أتى على هذا شهرٌ حتى قال محمد بن يحيى: ألا مَنْ يختلفُ إلى مجلسهِ لا يختلف إلينا، فإنَّهم كتبوا إلينا من بغدادَ: أنَّه تكلَّمَ في اللَّفظ، ونَهَيْناهُ فلم ينتَهِ. فلا تقرَبوهُ، ومَن يَقْرَبْهُ؛ فلا يَقْرَبنا. فأقامَ محمد بن إسماعيلَ ها هنا مدَّةً، وخرَج إلى